يبدو أنّ الضربة لن تحصل وأنّ الحرب العالمية الثالثة لن تبدأ وأنّ الإمبريالية لن تجتاح سورية. لن تأتي الضربة الغاشمة ولن يواجهها الرد الباسل. إنّه نصر «إلهي» آخر يضاف إلى رصيد جبهة الممانعة، التي بمجرّد إفلاتها من العقاب، انتصرت. الاستكبار العالمي منطوٍ على ذاته، والإمبريالية فقدت شهوتها لاحتلال العالم. كل ما كان مطلوباً هو بعض التذاكي الروسي لإنهاء هذا الكابوس، وإراحة الرئيس الأميركي من دوره الإمبريالي، والممانعين من مهمة إعدام الخونة أمام عائلاتهم، واليساريين من تخبطهم النظري. قد يكون هناك خاسر واحد جراء هذا اللا-حدث التاريخي، وهم بحارة «نيميتز»، الذين أُرجئت إجازاتهم بدواعي الضربة (وهناك احتمال وجود خاسر آخر، وهو اليسار المعادي للإمبريالية، الذي سيواجه بصعوبة سقوط الإمبريالية، وهو سقوط قد يفوق بوطأته انهيار الاتحاد السوفياتي). يمكن ترك ترتيب الرابحين والخاسرين لهذه الجولة وتوزيع الجوائز للمحللين الجيوستراتيجيين، آفة عالمنا. فبين الضباط المتقاعدين وتحليلاتهم العسكرية وبعض المعلقين وهوسهم بأنابيب النفط، ستحل على المنطقة مرحلة من سطوع التحليلات التي قد تكون أشد وطأة من الضربة نفسها. وبعد انتهاء هذه الضربة، يمكن العودة إلى المسلسل السوري، الخالي من الكيماوي الذي هو أصلاً غير موجود والذي هو في يد المعارضة، وإن كانت سورية قبلت وضع ما لم تملكه تحت مراقبة دولية ما زالت لا تستطيع تقرير ما إذا كان قد استعمل أصلاً. غير أنّ لهذا اللا-حدث الدولي تداعيات سياسية على المعارضة السورية التقاطها. ومن غير المفيد بعد مهزلة الضربة العودة إلى موّال لوم المعارضة السورية على هذا الإخفاق. فالفشل السياسي الذي أحاط بمسألة التدخل الدولي يعود في الدرجة الأولى إلى تخبّطات الداعم الدولي للثورة السورية وعدم تقبل الرأي العام الغربي لأي مغامرة عسكرية جديدة. صحيح أنه يمكن إرجاع هذين الأمرين إلى إخفاق المعارضة السورية، بشقّيها السياسي والإعلامي، في إقناع الغرب، ولكن أمام العواقب النفسية والسياسية في وجه مبدأ التدخّل، كان من الصعب إنجاز أي شيء في هذا المجال، وقد يكون غير عادل لوم المعارضة في هذا الإطار. الواقع الناتج من الجولة الأخيرة يفرض مقاربة جديدة للخطاب الإعلامي للثورة السورية، بخاصة أنّ إمكانية الضربة القاضية باتت مستبعدة اليوم. فقد بات من الواضح أنّه ليست هناك رغبة غربية في التدخّل في سورية، خارج بعض المساعدات العسكرية غير العلنية. ذاك أنّ الرأي العام الغربي، وبغض النظر عن تلاوينه وانقساماته، لم يتعاف بعد من كابوس العراق. هذا لا يعني أنّ هناك لامبالاة تجاه القضية السورية أو أن هناك دعماً خبيثاً للأسد، إنّ استثنينا متطرفي اليسار واليمين الذين لا دور لهم في هندسة الرأي العام. هناك تعاطف إنساني ونبذ فعلي للأسد، لكنه يبقى من دون ترجمة سياسية. ومن الصعب أن يُبنى على هذا التعاطف أي أمل سياسي أو عسكري ما دام شبح العراق يطوف فوق الغرب. الأمر الثاني الذي ظهر من النقاشات التي أحاطت بمسألة الضربة هو الافتراق بين الثورة السورية والضحية السورية. ففي تصوير الوضع السوري، بات هناك لاعبان هما النظام والمعارضة، وبينهما شعب يقع ضحية إجرامهما، وإن كان النظام أكثر دموية. غير أنّ ما بات واضحاً أن الثورة، بشقّيها السياسي والعسكري، لم تعد تمثل الضحية السورية في نظر هذا الرأي العام الغربي. التدخلات الإنسانية المعروضة هي تدخلات لا تعترف بسياسية الضحية أو بتمثيل المعارضة لها. إنها حلول لحروب أهلية، بحيث باتت معادلة إبراز الظلم الذي يأتي بالتدخل فاقدة لأية واقعية. قد يكون هناك تدخل أو لا يكون، لكن المؤكد أنه لن يكون هناك تدخل مدعوم برأي عام مؤيد في المستقبل القريب. اللا-ضربة إشارة إلى أنّ الثورة السورية تدخل مرحلة طويلة لن تكون فيها نهاية سريعة بل معركة طويلة، قد تنتهي بتفاوض غير ثوري. بات من الواضح أن الراعي الغربي متخبّط وأن الراعي الإقليمي يمارس «سياسات قرية في عالم مدن»، وفق عبارة لياسين الحافظ. فبين الانقسامات السياسية والتخبط تجاه التسليح وتعاطي الهواة مع العلاقات الدولية، تدفع الثورة السورية ثمن دعمها الخارجي بقدر ما تستفيد منه. هذا ليس للقول إنّها بريئة مما آلت إليه الأوضاع، لكنّه إشارة إلى صعوبة الاستمرار بمقاربة سياسية متخبّطة إلى هذه الدرجة. وفقط للمقارنة، هناك تجربة سياسية أخرى، هي تجربة «قوى 14 آذار»، التي استفادت من دعم كهذا، ليعود هذا الدعم ويقضي عليها جراء حسابات القرية التي تسيطر على سياستها. هذا التخبّط يترجم بعدم وضوح موقف المعارضة السورية من مقترح التفاوض المطروح، والحلول المرحلية التي يتمّ عرضها. تبدو المعارضة السورية غير موجودة خارج قطبي الانتصار الكامل أو الخسارة الكاملة، ضحية تخبّط من يدعمها من جهة وضرورة المحافظة على حد أدنى من التماسك من جهة أخرى. فشل خيار الضربة القاضية قد يفرض التعاطي مع تلك الحلول المرحلية، وهو ما يتطلب معارضة أكثر ليونة وسياسية. فبعد اللا-ضربة بات من الصعب إنكار أن هناك شعباً يقتل جراء نظام إجرامي وحرب أهلية، وأنّ هناك نظاماً يستحيل عليه الفوز ومعارضة غير قادرة على الحكم، ورأياً عاماً دولياً متعاطفاً لكنّه غير داعم، وتوافقاً دولياً على حل سياسي لن يرضي أحداً وإن كان الحل الأفضل في تلك الظروف، وخياراً تصعيدياً إقليمياً فيه من «البهورة» أكثر من الاستراتيجية. اللا-ضربة، بهذا المعنى، هي انتهاء آخر إمكانية أو وهم بنهاية خلاصية لهذه الثورة. ليست هذه دعوة إلى التشاؤم، لا سيّما أنّ الوضع الميداني لم يتغير جراء هذا اللا-حدث، لكنها إشارة إلى أنّ الثورة دخلت طوراً جديداً، يتطلب مقاربة مختلفة. اليوم، ما بعد اللا-ضربة، سيكون طويلاً جداً.