يُذكر دائماً أن بشار الأسد ورث عرش أبيه في الداخل، من دون التركيز على التركة التي خلّفها له خارج البلد، مع أن الأخيرة لا تقل أهمية إذ طالما استثمر الأب توسع تحالفاته الخارجية لمزيد من الإمساك بالداخل والمزيد من قهره. بل إن لحظة التوريث شهدت تواطؤاً خارجياً وداخلياً على تمريرها بسلاسة منقطعة النظير، فأهل الخارج راهنوا على دوام دور النظام وتحديثه تماماً كمراهنة أهل الداخل، أما خصوم الأسد في الجانبين فراهنوا على تغيير من ضمن النظام يعفيهم من محاولات تغييره. في عام 2005، بدا ذلك التوازن قابلاً للاختلال مع مقتل رفيق الحريري وانسحاب قوات الوصاية، على رغم أن اغتيال الحريري لم يكن سوى استئناف لسيرة النظام في تصفية الشخصيات اللبنانية المرموقة. كان ممكناً للخارج البدء بتغيير النظام من تلك اللحظة، إلا أنه تراجع، وأتاح له معاودة السيطرة على الساحة اللبنانية بالتزامن مع منحه مقداراً من النفوذ في العراق، ولو بصفته وسيطاً بين الإدارة الأميركية وإيران لتسهيل التفاهم على انسحاب الأولى. منذ دخول القوات السورية إلى لبنان بدأ النظام رحلة الخارج مع السوريين، ويجوز القول إن الاهتمام بالشأن اللبناني فاق بكثير الاهتمام بالشأن الداخلي، باستثناء أزمة الثمانينات التي عالجها بقمع وحشي. صار الشأن اللبناني، والاستثمار فيه، الوسيلة الأقصر للتكسب السياسي الخارجي، وحتى للإثراء والفساد بالمعنى المبتذل للكلمتين. أما التبعات على الداخل فكانت طوال الوقت في أن مزيداً من النجاح في لبنان ينعكس بالمزيد من الإهمال والقهر للأول، وبالمزيد من الاستعلاء والانفصال عن الواقع السوري. في الواقع لم يتوقف النظام يوماً عن الاستقواء بنجاحاته الخارجية على الداخل، وبينما كانت أجهزته الأمنية الضاربة الأداة العملية لذلك كانت «إنجازاته» الإقليمية هي الأداة الإعلامية والمعنوية لقهر المعارضين وإفهامهم بأنهم متروكون تماماً لمشيئته. لقد كان أهم دروس النجاح الخارجي، والتوكيلات الإقليمية التي حازها النظام، إفهامُ السوريين بأنهم يتامى العالم، أي أن إحساسهم باليتم لم يأتِ فقط بفعل التخاذل الأخير للمجتمع الدولي إزاء الثورة السورية، ولعل لحظة التوريث كان لها الأثر الأقسى أولاً، إذ من المعلوم أن الأب أخذ البيعة لابنه من العواصم الدولية قبل الاعتماد حتى على مخابراته وجيشه. اهتزت هذه القناعة موقتاً فقط بفعل التشجيع الغربي لثورات مصر وليبيا واليمن، لكنها عادت لتتعزز بفعل السكوت على مجازر النظام. أيضاً، لاعتبارات مغايرة للمصالح والتوازنات الدولية، يحظى بشار الأسد بتعاطف التيارات السياسية والفكرية التي لم يعد لها ما يمثّلها بين حكام المنطقة سواه. فمنذ إسقاط صدام حسين بات النظام السوري الرهان الوحيد لتطلعات أولئك المهمومين بإعلان العداء للغرب، ولو لفظياً فحسب. وأن يرضى المراهنون بالعداء اللفظي فهي ليست سابقة على كل حال، فهُم في الكثير من المرات توسلوا هذا المستوى وركبوا موجته التي تنتعش عادة مع الأخطار التي تتعرض لها الأنظمة المعنية، وبصرف النظر عن السياق العملي ل «جمال عبدالناصر» الجديد؛ هكذا يمكن فهم محاولات توريط عبد الفتاح السيسي كاحتياطي مرتجى في حال سقوط بشار، على أمل ضعيف بأن تودي به أزمة مصر الحالية إلى وراثة الأخير. ربما زادت الضربة الأميركية المرتقبة من تجييش رهط الممانعين ومعادي الغرب عموماً؛ هذا يذكّر بالحشد المعادي للحرب على صدام حسين، مع التنويه بأن نظام الأسد قد ورث مناصري صدام أيضاً. ليست مهمة هنا مكانة الأسد أو كفاءته الشخصية، فالأهم أنه ورث مع سورية أولئك الذين وجدوا فيه استمراراً لنموذج أرساه عبد الناصر، وتولى ترسيخه وابتذاله في آنٍ طغاةٌ أكثر فساداً. ستكون صفاقة المدافعين عن نظام الأسد، على رغم البشاعات التي ارتكبها، مفهومة أكثر في غياب البديل، وهذه ميزة لم تتح مثلاً لصدام حسين، إذ سرعان ما وجد مناصروه السلوى في نظام الأسد، بل لم يجد بعضهم أدنى حرج في العودة عن حماسه الأول تحت زعم عدم تمثيل صدام للمُثُل الحقيقية التي نال الدعم بسببها. الآن يستشعر هؤلاء اليتم مع فكرة سقوط الأسد، إذ من المتوقع أن يؤذن سقوطه بسقوط مرحلة كاملة في تاريخ المنطقة، وأن يؤدي إلى محاسبة البنى الفكرية واللفظية التي سادت بالتواطؤ بين الطاغية القومي وجمهوره العربي. إن أزمة البديل المفتقد تلوح مجدداً هنا. فالمدافعون الشرسون عن النظام تحت دعاوى أيديولوجية يدركون أن التغيير لن يأتي بنظام مشابه، ويلتقون في هذا مع القوى الدولية العاجزة عن بلورة بديل ناجز يحسن التعامل مع الملفات الداخلية والإقليمية. العبارة الأخيرة لا تهدف إلى إعفاء المعارضة السورية من واجباتها في تقديم البديل المقنع للداخل وللقوى الدولية، بقدر ما تسلط الضوء على ارتياح الأخيرة أيضاً للنموذج الذي أرساه نظام الأسد، وعدم سعيها إلى إجراء تغييرات جذرية فيه. من المتوقع طبعاً أن يزداد الزخم الإعلامي لمعارضة الضربة كلما اقترب موعدها، وأيضاً في أثنائها، وكلما دنت أكثر ساعة سقوط النظام ستعلو الأصوات الداعمة له، والتي لا تقيم أدنى وزن للمجازر الإضافية التي سيرتكبها قبل رحيله. علينا أن نسلّم بهذا الواقع بعيداً من الاعتبارات الأخلاقية، لأن يتامى النظام من كل حدب وصوب، وليس من الداخل فقط، لن يبقى لهم ما يراهنون عليه إذا حدثت القطيعة بينه وبين حماته الدوليين، أو بالأحرى إذا لم تعد تنقذه سياسة الشتم من فوق الطاولة والمصافحة من تحتها. طوال ثلاثة عقود من حكمه، واظب الإعلام السوري على وصف حافظ الأسد بالأب القائد، ولا شك في أن مؤيديه بدأوا يحسون بموته حقاً مع اندلاع الثورة، هؤلاء أيضاً ستترتب عليهم مكابدة الاستمرار من دون الإحساس باليتم وأن يلاقوا أولئك الذين قاموا بقتل الأب. في المحصلة، يبدو أن لا مهرب أمام الخارج والداخل أيضاً من التسليم بوفاة الأسد.