يأتي اغتيال رئيس شعبة المعلومات في الأمن الداخلي اللبناني وسام الحسن، ليصب في صلب موضوع هذه المقالة التي بدأت يوم الأحد الماضي. من الذي اغتال العميد؟ الإجابة محصورة في خيارين: إما الاستخبارات السورية أو الاستخبارات الإسرائيلية. وهذا أمر لافت وينطوي على سابقة: قبل النظام السوري الحالي وقبل الحرب الأهلية اللبنانية، كان الاتهام بالاغتيال يتوجه في الغالب إلى إسرائيل. آنذاك كان ضحايا الاغتيال كوادر المقاومة الفلسطينية. الآن وفي المشهد اللبناني، صار جميع ضحايا الاغتيالات لبنانيين معارضين للنظام السوري. صحيح أنه توجه الاتهام إلى سورية منذ اغتيال كمال جنبلاط. لكن الآن ومنذ اغتيال رفيق الحريري، تكاد دمشق تكون المتهم الوحيد. صار النظام السوري هو اكثر قابلية للاتهام من الحكومة الإسرائيلية، ليس فقط في الوعي اللبناني الذي يدفع ثمن الاغتيالات، بل في الوعي العربي أيضاً. لم يعد يدافع عن النظام السوري إلا حلفاؤه، وبشكل خاص «حزب الله». نحن هنا أمام تطور سياسي لافت، المسؤول عنه النظام السوري، وليس أي طرف آخر. وهذا يعيدنا إلى موضوعنا الأصلي عن السعودية والثورة السورية. حصل اغتيال العميد على خلفية الثورة السورية، لأنه قاد عملية كشف تورط الوزير اللبناني السابق ميشال سماحة، حليف سورية، في نقل متفجرات إلى لبنان، بهدف الاغتيال وتوتير الأجواء السياسية فيه. كانت ظاهرة الاغتيالات السياسية اللبنانية، ابتداء من اغتيال رفيق الحريري عام 2005 هي التي فجّرت العلاقات السعودية - السورية. اعتقدت الرياض أنه كان من الممكن احتواء الأزمة. حاولت فتح باب المصالحة مع دمشق في قمة الكويت الاقتصادية، ثم تأييد اتفاق الدوحة، وأخيراً إقناع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، بزيارة دمشق ومصالحتها أيضاً. لكن كل ذلك لم يؤد إلى شيء ملموس، أو تغيّر في النهج السوري. كان هدف الرئيس السوري ومعه قيادة «حزب الله»، إلغاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. وعندما لم يتحقق ذلك، تمت الإطاحة بحكومة سعد الحريري، والإتيان تحت تهديد السلاح بحكومة يهيمن عليها «حزب الله». عندها بدأ الوضع السياسي اللبناني يراوح مكانه، وكذلك العلاقات السعودية - السورية. من سوء حظ النظام السوري أنه في اللحظة التي أسقطت فيها حكومة الحريري كانت ثورات الربيع العربي بدأت في تونس، وأخذت تنتقل من هناك إلى مصر، فاليمن ثم ليبيا وأخيراً سورية. وهنا دخلت العلاقات السعودية - السورية مرحلة مختلفة، انتهت بتوقفها تماماً. لا يمكن القول إن السعودية مع فكرة الثورة، سواء في سورية أو غيرها. لكن في الوقت نفسه لا يمكن القول إن السعودية تسعى، هكذا، إلى معاداة هذه الثورة أو تلك. تتبنى السعودية سياسة خارجية عملية تنطلق من أن ما يحصل في غيرها من الدول الأخرى هو شأن داخلي. وبالتالي إذا حصلت ثورة في أي من الدول العربية، قد تحاول السعودية التأثير في الأحداث، من خلال علاقتها بالنظام. لكن عندما تؤدي الثورة إلى إسقاط النظام أو تغييره، فلا يعود أمام السعودية إلا الاعتراف بالواقع، وبالتالي بالنظام الذي تتمخض عنه الثورة. الحال السورية كانت استثنائية من حيث أن النظام تبنى منذ اليوم الأول للاحتجاجات التي كانت سلمية حلاً أمنياً بشعاً. بدأ القتلى يسقطون منذ اليوم الثاني للاحتجاجات في درعا، ثم أخذ القتل يستشري بتوسع نطاق الاحتجاجات. حاولت السعودية ودول أخرى، إقناع النظام بامتصاص التظاهرات، وتلبية بعض مطالبها، بدل اللجوء للعنف وإراقة الدم، خصوصاً في الأيام الأولى. لكن النظام السوري، كما يبدو، اعتبر مقترح استيعاب التظاهرات تخاذلاً وتنازلاً للمحتجين سيغريهم بالتصعيد. كانت قيادة النظام تستهدي بما حصل في حماة عام 1982، لم تكن في وارد تقديم أي تنازل. لماذا اختار النظام السوري الذهاب في الحل الأمني إلى حد الانتحار، حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير سورية بكاملها بدلاً من تبني خيار التنازل للشعب؟ الإجابة تكمن في طبيعة النظام وطريقة نشأته أولاً، ثم في عملية التوريث التي حصلت في داخله، وأخيراً في تحالفاته بعد العام 2000. النظام السوري الذي جاء الى الحكم عام 1970 هو نظام حكم عائلي ينتمي لأقلية طائفية صغيرة، ويحكم مجتمعاً تمثل الطائفة السنّية فيه ما بين 75 في المئة و80 في المئة من السكان. كان الأمر طبيعياً، أو هكذا بدا، في السنوات الأولى للنظام، وفي ذروة الصراع العربي - الإسرائيلي. لكن برزت فكرة التوريث في ثمانينات القرن الماضي، أولاً في الصراع بين الرئيس حافظ الأسد وشقيقه رفعت، ثم بتأهيل باسل، الابن الأكبر للرئيس ليكون هو الوريث. وقد تدخل القدر ليكون بشار هو من ورث الحكم عن أبيه. هل كان التوريث بهدف التأسيس لسلالة حكم في سورية؟ كان الاعتقاد أن الذي فرض التوريث هو انقسام جنرالات النظام، وأنه لم يكن بينهم من يمكنه أن يخلف حافظ الأسد، ويملك القدرة على تحقيق نوع من الإجماع حوله. ولذلك كان الحل أن يكون ابن الرئيس بشار هو وريثه. بشار كان خارج دائرة الصراعات والاستقطابات في النظام، ولا يحسب على هذا الطرف أو ذاك، وبالتالي فقد يمثل نقطة التقاء بين الجميع. لكن هذا الرأي لا يستقيم مع حقيقة أن فكرة التوريث كانت قديمة. مهما يكن من الذي حصل فالتوريث عمّق إشكالية الطائفية لدى النظام، وعزّز من حاجته للتحالف مع إيران. لم يكن من الممكن أخذ لبنان بسبب تركيبته الطائفية إلى التحالف، لذلك كان «حزب الله» هو الطرف الثالث الممكن في هذا التحالف. تحالف يضم دولتين، وحزب يملك من القدرات العسكرية ما يوازي قدرات دولة. وأهم ما يجمع بين هذه الأطراف الثلاثة هو فكرة الأقلية: إيران و»حزب الله» ينتميان لأقلية إسلامية على مستوى العالم العربي. والنظام في دمشق تحت حكم أقلية إسلامية داخل سورية. هذا تطور أفرزته التركيبة الديموغرافية لمنطقة الشام، حيث تتركز مشكلة الأقليات في العالم العربي. كانت السياسة الخارجية السعودية تتعامل مع هذه المنطقة، وتحديداً مع النظام السوري على أساس من أولوية الاستقرار، وبالتالي مراعاة حساسية التركيبة الاجتماعية والمذهبية لها، إلى جانب ذلك أيضاً مراعاة حساسية النظام السياسي في مثل هذه التركيبة، تماشياً مع التقليد السياسي العربي. لكن مع سقوط نظام صدام حسين، واختيار النظام السوري لمبدأ تحالف الأقليات، بما ساعد في توسع النفوذ الإيراني في المنطقة، تغيرت البيئة السياسية العربية، وهو ما يتطلب مراجعة السياسة السعودية. الهدف الرئيسي للسياسة الخارجية السعودية هو تحقيق الاستقرار في العالم العربي، والعمل على تثبيته كلما تعرض للاهتزاز في أي من الدول العربية. واختيار هذا الهدف نابع من أنه يخدم مصالح السعودية بقدر ما يخدم مصالح الدول الأخرى، لأنه إذا اهتز الاستقرار في أي من البلدان العربية، خصوصاً في الدول القريبة من أو المحيطة بالسعودية، فإنه سيؤثر في السعودية عاجلاً أو آجلاً. سيكلفها سياسياً ومالياً، وربما عسكرياً، فضلاً عن أنه قد يفرض تغيّرات إقليمية لا قِبَل للسعودية بها. من هذا المنطلق لم يكن في مصلحة السعودية أن يتعرض الاستقرار السياسي لسورية للاهتزاز. تقع السعودية في الواقع في عين العاصفة مما يجري في العالم العربي، ويحيط بها عدم الاستقرار من كل جانب: في العراق شمالاً، والبحرين شرقاً، واليمن جنوباً، ومصر وسورية غرباً. ولذلك تدرك السعودية مخاطر الأحداث في سورية. لكن تجربتها مع دمشق بشار الأسد، وهي تجربة مريرة وإن لم تكن طويلة، كما تجربتها مع بغداد صدام حسين التي كانت طويلة ومريرة، علّمتها أن النظام في كلتا العاصمتين يميل دائماً لدفع الأمور والخيارات نحو شفير الهاوية، كل لأسبابه الخاصة. ولأن سورية في عهد بشار الأسد اختارت حلفاً طائفياً مغلقاً مع إيران و»حزب الله»، وأن هذا الحلف هو الذي يملي على النظام خياراته المحلية، كما يتضح من تعامله مع الثورة، وخياراته الإقليمية كما يتضح من علاقاته مع إيران، صار من الواضح أن هذا النظام ليس فقط غير قادر على حفظ الاستقرار في سورية، بل ويهدد الاستقرار في محيطه الإقليمي. وعملية التفجير الأخيرة في بيروت لن تكون على الأرجح المؤشر الأخير على ذلك. من هنا أصبح بقاء النظام السوري مصدر تهديد لما تعتبره السعودية هدفها الاستراتيجي. * كاتب وأكاديمي سعودي