تابعتُ بعض التعليقات التي تناولت مقالتي السابقة بعنوان: «البنّا وقطب.. العملة ذاتها-1»، سلباً وإيجاباً، بما وردني منها على بريدي الإلكتروني أو بما تداوله بعض المواقع على «الإنترنت». في كل الأحوال كنت سعيدة بها وبمشاركيها وبالحراك الذي أحدثوه حول الطرح والكتاب الذي اعتمدته مصدراً للفكرة الرئيسة التي ارتأيت إيضاحها. فكما جاء في المقالة الأولى أن هناك منحى أخذ ينمو ويتردد في الفترة الأخيرة، وبخاصة في برامج الحوارات المصرية، عن جماعة الإخوان المسلمين وانحرافها عن خط سير البّنا الذي أراده لها وانخراطها في أدبيات الفكر القطبي (نسبة إلى سيد قطب)، وهو تحليل رومانسي في مجمله، وبعيداً تاريخياً عن الواقع بحقيقته. فالتنظيم الذي شكّل عجينته البّنا واختار له اسمه الحركي الجذاب، هو ما وصلَنا عنه بعد أن تزوّد في الطريق بالمؤونة القطبية، ليضيفها إلى ما كان لديه من زاد مما لم يختلف عنه في الصنف كثيراً، ولكن في الطعم قليلاً. وهو أمر طبيعي بسبب امتداد السنين وتغيّر ظروف التكنيك والتخطيط، تبعاً لاختلاف المناخ العام. وهذا بالضبط ما عنيته في مقالتي الأولى بالاستعانة بأهم ما كُتب عن «الإخوان المسلمين»، في كتاب له السبق والريادة على الدراسات المتأخرة عنه، لمعايشة الكاتب للمؤسِّس وقربه منه، وكان عنوانه: «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لمؤلفه المستشرق البريطاني ج. هيوارث دن. هذا الكتاب ومترجمه إلى العربية أحمد الشنبري لم يكن ليظهر ويستفيد منه القارئ العربي والإسلامي لولا جهود المحقق والباحث «علي العميم» الذي أخرجه للنور وحضّره بمقدمة احتلت 88 صفحة، بما حوته من مقارنات ومقاربات بين الروايات والتحقيق فيها. في جهد، قد لا يقدّره القارئ العادي كمثل الباحث والأكاديمي ومن له باع في العمل البحثي. وربما لهذا السبب تحديداً لم أشر إلى العميم في المقالة السابقة، لأن مقدمته بقيمتها المضافة إلى كتاب هيوارث، كانت تحتاج إلى إفراد أكبر يكفي لمناقشتها واستيعابها. ومع ذلك، ونظراً إلى حدة بعض أصوات التعليقات، ولاسيما ما كتبه الأستاذ محمد السيف، معتبراً أن مقالتي السابقة تضمنت «سرقة كربونية ل12 سطراً» من مقدمة الباحث العميم، يؤسفني هنا أن أقول إن هذا الوصف غير صحيح، إذ إنني استفدت من المقدمة في التدليل على فكرتي، وهذا ما لا أنكره، لكنني عبّرت عن استفادتي بأسلوبي وبما تحتمله مساحة المقالة. وعلى أي حال، وللتأكيد على كلامي، أجدها فرصة ملائمة لإعادة تسليط الضوء على الكتاب وكاتبه ومقدمه مرة أخرى، لذا أنصح القارئ بشرائه وقراءته بتمعّن وتركيز يمكّنانه من ربط الأحداث والتحليلات بهوامشها بعضها ببعض (ويا ليته بالمرة يعقد المقارنات بين مقالتي ومحتوى الكتاب حرفياً)، فميزة هذا العمل أنه يضيف إلى القارئ وثقافته في فهم أصول حركة الإخوان المسلمين وأساسياتها، مهما اعتقد بأنه قد أخذ كفايته في القراءة عنها. من الأمور التي استغربتها وأزعم أن الكتاب عرّفني بها، كيف أن سيد قطب كان يحقِّر من شأن الجماعة ويستتفهها في علاقته الملتبسة بمؤسسها البنّا في أواسط الأربعينات، فكان يكثر من شتم البنّا أمام ابن شقيقته الذي كان من أتباع الجماعة واسمه أحمد محمد سالم، وذلك بشهادة زوج أخت هذا الابن، فكان الخال المتهكِّم كلما صادف ابن شقيقته سأله عن البّنا وجماعة الحشاشين عوضاً عن المسلمين (في إشارة إلى جماعة الحشاشين الإرهابية الخارجة عن الدولة الفاطمية). ولا غرو في ذلك إذا قرأنا عن تفصيلة فصّلها الكتاب -حصرياً- عن الضرر الكبير الذي لحق بالمجلة التي كان يترأس تحريرها سيد قطب، والحرب التي شنها البنّا على قطب لرفضه القاطع إدماج فكر «الإخوان» في مجلته، لعدم تثمينه لفكرهم من الأساس. وهي معلومة لها تفاصيلها وحواشيها، على خلاف ما صوره لنا محمد قطب عن علاقة شقيقه سيد بالبّنا و «الإخوان» والامتداد الفكري والشخصي المتواصل بينهما. معلومة تقودنا إلى انتقام الجماعة من يهود مصر وتفجيرهم لمحالِّهم (شيكوريل وبنزايون وأركو وغيرها) لامتناع أصحابها عن الإعلان في مجلة تحرِّض عليهم. وكانت تفعل بأوامر من البّنا مستتراً، على رغم علاقته الجيدة علناً مع هؤلاء اليهود. ثم تفجيره لاحقاً للشركة الشرقية للإعلان وتعود في ملكيتها ليهود مصر أيضاً، لمنافستها شركته للإعلانات العربية (وأيضاً على رغم علاقته الجيدة في العلن معهم)، باعتراف «الإخوان» أنفسهم بعد سنوات من الحادثة. فلماذا ينادي بالرجوع إلى تعاليم البّنا وإخوانه؟! ها هي أفكارهم وتطبيقاتهم منذ البداية بتسويغات معدّة سلفاً. والسؤال: لماذا إذاً جاء التحاق قطب بالجماعة بعد وفاة مؤسِّسها بخمس سنوات وأشهر، على رغم موقفه النافر منها؟ مجرد انتهازية وصولية لامتداد فكره لا تختلف عن أسلوب التنظيم ونهجه. عابر حياة - البنّا وقطب.. العملة ذاتها-1! [email protected]