ليس معلوماً بعد من أي مصدر بدأ الحديث عن وجود ما يسمى «تياراً قطبياً» في داخل جماعة «الإخوان المسلمين». ولكن هذا الحديث صار شائعاً، ثم بات معتاداً من دون أن يهتم مستخدمو تعبير «التيار القطبي» بمغزاه أو يقفوا عند دلالته المحددة. فهؤلاء الذين يطلق عليهم الآن «قطبيون»، وهم كُثر في داخل الجماعة، ليسوا قادمين جدداً إليها وإنما موجودون فيها منذ عقود. وليس هناك منطق واضح في هذا التصنيف، الذي اكتشفنا فجأة- من دون منطق مفهوم أيضاً- أنه محوري في جماعة «الإخوان». غير أننا قد لا نكون في حاجة إلى مناقشة منطق الحديث عن «قطبيين» يؤمنون بأفكار سيد قطب لأن الخطأ فيه واضح على المستويين المعرفي والسياسي. فهذا خطأ معرفي لأنه لا يوجد فكر قطبي أصلاً. فلم يقدم سيد قطب نظرية أو نسقاً فكرياً متكاملاً، وإنما طرح منهجاً أو دليلاً للعمل في لحظة معينة صارت تاريخاً. ولذلك يرى جيل كيبل، وهو أحد أبرز من بحثوا في الحركات الإسلامية وأكثرهم عمقاً، أن قطب وضع معالم للعمل في ظرف استثنائي، ولكنه لم يدع للعمل ولا قدم برنامجاً. وهذا صحيح، إذ كان قطب تعبيراً عن أزمة وليس عن فكر ولا حتى عن تنظيم متبلور. فكتاب «معالم في الطريق» ليس عملاً فكرياً وإنما خطوط عامة لمنهج عمل أو كما وصفه هو «دليل» لما سماه «الطليعة المرجوة المرتقبة» التي تمنى أن تبدأ عملية البعث الإسلامي وفق تصوره. فلم يكن قطب، مثله مثل حسن البنا، مفكراً أو حتى منظّراً. ولا أساس بالتالي للحديث عن اتجاهين يتبنى أحدهما فكر البنا ويؤمن الثاني بفكر سيد قطب. ويقودنا ذلك إلى الجانب السياسي للخطأ الذي يقع فيه من يتحدثون عن «قطبيين» أو «تيار قطبي»، وهو أن هذا الحديث يوحي بأن أزمة «الإخوان» الراهنة تعود إلى انقسام بين «قطبيين» في ناحية و «حسنيين» نسبة إلى حسن البنا في الناحية الأخرى. والحال أنه لا يوجد انقسام بالمعنى الدقيق لأن الخلاف الذي ظهر على السطح أخيراً هو بين كتلة عريضة وشريحة نحيفة، فضلاً عن أنه ليس خلافاً فكرياً وإنما هو في جوهره خلاف سياسي وحركي وتنظيمي في المقام الأول. كما أن هذا الخلاف ليس هو السبب في الأزمة التي ظهرت أخيراً، بمقدار ما يُعتبر إحدى نتائجها. فهذه أزمة شيخوخة لا يمكن حلها إلا عبر التجديد الذي يبدو أحد الفريقين متردداً في شأنه فيما لم يقدم الثاني المسمى إصلاحياًَ أي إسهام جاد فيه يتجاوز بعض العناوين العامة والشعارات البرَّاقة. والطريف أن بعض أكثر من يتحدثون عن «القطبيين» تخلوا للمرة الأولى عن الصورة السوداء التي رسموها لجماعة «الإخوان المسلمين» قاطبة بكل من فيها وما يصدر عنها، واكتشفوا فجأة أن فيها القليل من الأخيار إلى جانب «الأشرار» الذين صاروا موصوفين بالتيار «القطبي». وربما لا يثير مثل هذا الارتباك استغراباً حين يتجاوز اللدد في الخصومة كل حد. وهذا تجاوز متبادل على أية حال بين «الإخوان» وخصومهم. ولكن الاستغراب ضروري حين يشارك في نشر خطأ جسيم مراقبون لا مصلحة لهم في ذلك. والأرجح أن الصورة الشائعة عن سيد قطب وكتابه «معالم في الطريق» أسهمت في توسيع نطاق الاعتقاد الخاطئ في أن كل «إخواني» انتمى إلى تنظيم 1965 لا بد من أن يكون أكثر تطرفاً من غيره وأشد ميلاً إلى العنف. وهذه صورة مبتسرة وخصوصاً حين تؤدي إلى تحميل قطب المسؤولية عن العنف الجهادي نتيجة قراءة انتقائية في كتابه «معالم في الطريق» على رغم أن هذا الكتاب لم يكن بين مراجع الجهاديين في وثائقهم الأكثر تأثيراً مثل «الفريضة الغائبة» لعبد السلام فرج. فليس في كتاب «المعالم» ما يُفهم منه تبني العنف المسلح وسيلة للتغيير. فقد تطلع سيد قطب إلى تغيير تحققه «طليعة» وضع لها دليل عمل ذا طابع دعوي في الأساس سعياً إلى بناء ما سماه «مجتمع الدعوة» في مدى زمني طويل وليس قصيراً وبالتالي لا يمكن أن تكون أدواته عنيفة لأن العنف يعنى السعي إلى التغيير عاجلاً وليس آجلاً. فقد حدد أربع مراحل، وليست مرحلة واحدة، لبناء مجتمع الدعوة وهي التكوين العقدي والاعتزال الشعوري والاستعلاء والتمكين. وتحدث عن مسافة شاسعة بين بداية البعث الإسلامي الذي ظن أنه هو باعثه وإنجاز أهداف هذا البعث، أو بين ما سماه بعث الإسلام وتسلمه قيادة العالم الذي رآه حينئذ خاوياً من الروح مجرداً من القيم. ويعني ذلك، منهجياً، أن عملية البعث التي طال عنده أمدها إنما تستهدف الاستيلاء على المجتمع من أسفل وليس الانقضاض على السلطة من أعلى. وهذا هو منهج «الإخوان المسلمين» منذ حسن البنا وحتى اليوم. كما أن مفهومه لما سماه الاعتزال الشعوري أو المفاصلة المعنوية ليس الانفصال الكامل عن المجتمع على رغم أنه اعتبره جاهلياً. فقد قصد بهذا المفهوم معنى الانعزال الجزئي – وليس الكلي – بالمقدار الذي يستوجبه بناء ما سماه «الطليعة المؤمنة المرجوة» التي وجهها لأن تعرف (طبيعة دورها وحقيقة وظيفتها وأين تلتقي مع الناس وأين تفترق وكيف تخاطب أهل الجاهلية بلغة الإسلام وقيم تخاطبهم). وهذا منهج دعوي في جوهره ومن حيث أدواته، ولا يختلف عن منهج حسن البنا إلا في الانفصال الجزئي للطليعة عن المجتمع ليس لأن الاتصال به شر بالضرورة وإنما لغرض وظيفي تماماً حدده في (حماية عناصر هذه الطليعة من التأثر بالبيئة المحيطة) في مرحلة كان إعلام الدولة قوياً طاغياً عظيم النفوذ في غياب أي إعلام آخر مستقلاً عنها كان أو حزبياً. لقد تبنى صاحب «المعالم» منهجاً أكثر تطرفاً من حسن البنا، ولكنه ليس أكثر عنفاً في مرحلة محددة هيمن عليه فيها شعور بالضآلة في مواجهة قوة عاتية. ولذلك قد يجوز القول إنه لو بُعث قطب حياً لأعاد النظر في كتاب «المعالم»، وربما نسخه بكتاب آخر لا يختلف كثيراً في مضمونه عما جاء في كتاب الهضيبي الكبير «دعاة لا قضاة». والمهم، هنا، هو أن حكاية «القطبيين» هذه تُسهم في إساءة فهم ما يحدث في أوساط «الإخوان» على نحو يزيد مشكلتهم تعقيداً. فإذا كانت هذه الجماعة تعتبر مشكلة أمام التطور السياسي في مصر، وبلاد عربية أخرى، فالخطوة الأولى في اتجاه حلها هي أن تحسن فهم ما يحدث فيها ويصدر عنها، أو نحاول ذلك.