لا شك في أن قلة فقط من هواة السينما بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، لم يقيّض لها ولو لمرة واحدة في حياتها أن تشاهد فيلم «قصة الحي الغربي» للمخرج الأميركي روبرت وايز. فهذا الفيلم، الذي عرض أواسط سنوات الستين من القرن العشرين، كان يعتبر الأضخم نجاحاً والأهم من حيث عدد متفرجيه في تاريخ السينما العالمية، قبل هجمة أفلام الخيال العلمي والمغامرات الفضائية التي أنزلته عن عرش كان له. غير أن ما لا تعرفه، في المقابل، سوى قلة من الناس، خارج الولاياتالمتحدة، هو أن هذا الفيلم «الكوميدي» الراقص إنما أتى مقتبساً عن عمل مسرحي كان منذ أواسط سنوات الخمسين قد بدأ يعرض على المسارح الأميركية بنجاح مدهش. وهو عُرض بصورة متواصلة، ليلياً، طوال أكثر من أربع سنوات على خشبات برودواي قبل أن يبدأ في عام 1961 جولات عروض عالمية كانت باريس واحدة من محطاتها الأولى... وكان ذلك قبل سنوات من إنجاز الفيلم. أي حين كان لا يزال من السهل إدراك أن العمل كلّه، أصلاً مقتبس عن شكسبير. وفي شكل أكثر تحديداً، عن مسرحية «روميو وجولييت» لكاتب الإنكليز الأكبر. أجل، فالحال أن ما لا يتذكره كثر من بين عشرات الملايين الذين شاهدوا الفيلم وأعطوه نجاحه الساحق، كان انتماؤه الشكسبيري. والحقيقة أن الفيلم، أكثر كثيراً من المسرحية – على رغم تطابقهما – كان يدفع إلى نسيان ذلك، طالما أن مدينة نيويورك بدت في الفيلم، بأحيائها الفقيرة وشبانها المتقاتلين وشرطتها القاسية، بعيدة كل البعد من أجواء إيطاليا الفخمة وعائلاتها الموسرة واحتفالياتها الباذخة التي تشكل مناخات المسرحية الشكسبيرية. مهما يكن من أمر، فإن ما يهمنا هنا هو الاستعراض الضخم الذي استقته برودواي من «روميو وجولييت» وطغى على المسرح في أميركا ثم في العالم حينها مقدّماً في مجال ما كان يسمّى «الكوميديا الموسيقية» جديداً لم يكن له من شبيه قبل ذلك. والحال أنه كان محقاً في ذلك الحين، ذلك الناقد الفرنسي الذي وصف «قصة الحي الغربي» حينها بأنها «تراجيديا العصر»... والمسألة في هذا الإطار ليست مجرد أمر له علاقة بالاصطلاح التقني. فالحقيقة أن ذلك النوع الاستعراضي الذي يدور رقصاً وغناءً جماعيين وفرديين، حول موضوع معين، والذي حلّ في الحياة الفنية الأميركية في مكان يرث – إلى حدّ ما – الأوبرا، كان يقوم أصلاً على مواضيع مرحة كوميدية تمتلئ بالاحتفالات الصاخبة واللحظات المرحة المسلية. ولم يكن من السهل على أحد أن يتصوّر إمكانية أن يدور عمل استعراضي من هذا النوع، حول موضوع درامي. من هنا، كان ذلك الاقتباس «الحرّ» والمدهش للمأساة الشكسبيرية الكبرى، أمراً جديداً كلّ الجدة على المسرح الاستعراضي، بحيث بات من الضروري حينها التخلي عن اسم «كوميديا موسيقية» لأنه إذا كان العمل موسيقياً حقاً فهو ليس كوميدياً على الإطلاق. ونشير هنا إلى أن هذه «المشكلة» الاصطلاحية لم تحل في ذلك الحين، حيث يبدو أن كلمة كوميديا ظلت تستخدم وقد أُفرغت من معناها (وهذا أمر يشبه ما حدث بالنسبة إلى الأعمال التلفزيونية العربية حيث راحت تسمى دراما حتى وإن لم تكن لها أية علاقة بالبعد الدرامي!). لكن المهم ليس هنا، المهم أن هذا العمل الفني الأخّاذ قد فتح الأبواب واسعة أمام عودة شكسبير إلى الساحة الفنية العالمية وقد عُصرنت مواضيعه تماماً ليكشف الأمر مدى راهنية هذا المبدع الكبير ومدى قدرة أعماله على أن تلامس الإنسان في كل مكان وزمان. والحال أنه لن يفوتنا في هذا المجال أن نتذكر عملاً آخر لكاتب بالإنكليزية غير شكسبير كان له المصير السعيد نفسه: مسرحية «بيغماليون» لجورج برنارد شو، التي حوّلتها السينما أيضاً وفي الحقبة نفسها تقريباً، إلى فيلم «كوميدي موسيقي» كبير هو «ماي فير ليدي» بعدما كان المسرح الاستعراضي قد أقدم على ذلك أيضاً... ولكن، يكمن الفارق هنا في أن مسرحية شو كانت تتحمل تسمية «كوميديا» أكثر مما تفعل مسرحية شكسبير. فنحن نعرف أن «روميو وجولييت» تتحدث عن المصير البائس لعاشقين كان من سوء حظهما أنهما أُغرما ببعضهما بعضاً من دون أن يأخذا في حسبانهما الصراع الأزلي بين عائلتيهما، ما يؤدي إلى موتهما في نهاية الأمر شهيدين، ليس للغرام وحده، بل كذلك لتعصّب تلك الهويات التي سيكون محقّاً الكاتب اللبناني باللغة الفرنسية، أمين معلوف حين يصفها منذ عنوان واحد من أهم كتبه ب «الهويات القاتلة». غير أن الاستعراض الذي اقتبسته برودواي عن «روميو وجولييت» إذ نقل الأحداث إلى نيويورك أواسط القرن العشرين، كان يعرف أن الصراعات المحلية الجديدة في العالم، باتت بين الأعراق المختلفة لا بين العائلات. وهي هنا، في الحالة النيويوركية صراعات دموية بين عصابات الشبان من البيض «الخلّص» والعصابات الأخرى «الملوّنة» التي تضم شباناً من أصول أميركية لاتينية أتى بهم شظف العيش في أوطانهم، إلى أميركا الشمالية ليجابَهوا ببيض قرروا أنهم هم أصحاب البلاد الأصليون! وفي هذا الإطار، من الواضح أن العمل الأستعراضي النيويوركي قد تجاوز في مدلولاته السياسية المباشرة ما كان عليه العمل الشكسبيري. حيث إن «قصة الجانب الغربي» ظهرت في زمن كانت الصراعات العرقية والإتنية قد اشتدت في الولاياتالمتحدة الأميركية وبات على الفن أن يقول كلمته في الأمر. فأتى ذلك الاستعراض الشعبي الكبير ليقول الكلمة. والجيد هنا هو أن الكلمة كانت صرخة مدوية طالما أن العمل أتى جماهيرياً وبسيطاً في إيصال أفكاره ما اجتذب مئات ألوف المتفرجين، حتى من قبل عشرات الملايين الذين سيجتذبهم الفيلم. مع هذا كله، من المؤكد أن التجديدات التي أتى بها هذا العمل، لم تكن سياسية وفكرية من النمط الليبرالي فقط، بل كانت فنية أيضاً، حيث، في ما وراء مسألة مصطلحات التسمية التي ستشغل المعنيين طويلاً على أية حال، كان هناك ما هو جديد تماماً في العمل ولا سيما على صعيد التوظيف المدهش للغناء والرقص. إذ قبل ذلك كانت الأغاني والرقصات تشكل جزءاً يبدو أساسياً من العمل، لكنها كانت تبدو مقحمة في شكل واضح ما يجعل الاستغناء عنها ممكناً، أما هنا، في «قصة الحي الغربي» فإن هذين الفنين بدوا كجزء أساسي مندمج تماماً في السياق الدرامي مشكّلين جوهره. بكلمات أخرى: كانت تلك واحدة من المرات الأولى التي يُقدّم فيها على خشبة المسرح عمل تتألف حركاته من الرقص وحواراته من الغناء، وطبعاً، من الموسيقى في الوقت نفسه. وفي شكل أكثر تحديداً بدت كل أغنية وكل رقصة جزءاً جوهرياً من الضرورة الدرامية. بهذا، كان أصحاب هذا العمل قد حلّوا واحدة من المعضلات الأساسية التي طويلاً ما جابهت مؤلفي الأوبرا طوال القرون السابقة حين يجدون أنفسهم منهمكين في إيجاد مكان للرقص والغناء في سياق العمل. ومن ناحية أخرى تمكن استعراض «قصة الحي الغربي» من حلّ الإشكال الذي كان يقوم دائماً حول «نخبوية» أو «شعبية» العمل. فعادة كانت الأوبرا تعتبر عملاً نخبوياً، فيما تعتبر «الأبرا كوميك» و «الأوبريت» من الأعمال الشعبية الخفيفة... هنا مع «قصة الحي الغربي» انتهت تلك الازدواجية ليعتبر العمل رسمياً «عملاً موسيقياً حديثاً نخبوياً وشعبياً في آن واحد». فالمتفرج يجد نفسه هنا أمام «موسيقى شعبية» ولكن من دون أن ينظر إليها نظرته إلى الموسيقى «المبتذلة الرائجة»، على حدّ تعبير ناقد إنكليزي في ذلك الحين. بقي أن نذكر هنا أن هذا الاستعراض الذي قدّم للمرة الأولى عام 1957 في برودواي، يبدأ هذا العام 2013 جولة جديدة في إنكلترا بعدما تم إحياؤه من جديد في عام 2008. وهو من كتابة ستيفن سوندهايم وآرثر لورانتس واقتباسهما وموسيقى ليونارد بيرنشتاين. أما الرقصات فقد صممها جيروم روبنز الذي يعتبر واحداً من أكبر مصممي الرقص الأميركيين أواسط القرن العشرين. [email protected]