«ويست سايد ستوري» (قصة الحي الغربي، بنيويورك) (1957) هي العمل الكلاسيكي الأعظم الذي صنعته الكوميديا الكلاسيكية الشعبية. والذين صنعوه هم نجوم الفن المتألقة: ليونارد بيرنستين (الموسيقى) وأرثر لورينتس (التوزيع)، وستيفن سوندهيم (كلمات الأغاني)، وجيروم روبينس (تصميم الرقصات). واقتباسها السينمائي في 1961 عن يد روبيرت فايس الذي نال عشر جوائز أوسكار على شريطه، وهو ألبسها حلة مختلفة عن الأصل المسرحي – كان له دور حاسم في ذيوع صيت العمل العالمي. و«ويست سايد ستوري» مثال الصنيعة الدقيقة والجامعة. فهي عمل كثير المصادر الموسيقية لكنه يتمتع بوحدة قل نظيرها. وتستوحي القصة «روميو وجولييت»، مسرحية شكسبير المشهورة وتدمجها في مادة أميركا غداة الحرب (الثانية). وفي أعقاب 55 سنة على العرض المسرحي الأول، لم تخسر المسرحية معناها السياسي الكوني: فالنزاعات القومية (العرقية) والأهلية تتناسل والحروب الداخلية «القبلية» تتجدد. وطوال 3 أشهر، بدءاً من 24 تشرين الأول (أكتوبر) 2012، يعرض مسرح شاتليه بباريس العمل في تصاميم الرقص الأصلية التي ابتكرها جيروم روبينس واستعادها جووي ماكنيلي، مساعد روبينس. ويضطلع العرض بدورين: فهو فاتحة الموسم المسرحي وختام السنة، وهذا قرينة على مكانة المسرحية الموسيقية الراقصة. يسلط كتابان أميركيان صدرا في الأعوام الثلاثة الأخيرة الضوء على ظروف ولادة «ويست سايد ستوري». الأول هو «ليونارد بيرنستين: ويست سايد ستوري» ، كتبه نايجيل سيميون، والثاني «سامثينغز كامينغ». ويست سايد ستوري اند ذي أميركان ايماجينايشن» (أشياء آتية. قصة الحي الغربي والمخيلة الأميركية) كتبه ميشا بيرسون. فصاحب الكتاب الأول ناقد موسيقي كبير، إنكليزي معروف بعمل تناول فيه أوليفييه ميسّيان كتبه مع بيتر هيل في 2008. وكتابه في بيرنستين يقارن موسيقاه بأعمال موسيقية كبيرة كتبها موسيقيون في القرن العشرين. ويدعو كتاب نايجيل سيميون إلى السؤال عن طبيعة «قصة الحي...»: هل هو كوميديا موسيقية حقيقية أم أوبرا شعبية؟ وسبق أن أسر لنا أرثر لورينتس بباريس، في 2007، في معرض محاورة لم تنشر، بأن أصحاب العمل لم يقصدوا كتابة أوبرا ولا كوميديا موسيقية تقليدية. «رأى ليني (ليونارد بيرنستين) أن ما يريده هو تأليف عمل غنائي أميركي وثوري كبير، حديث وشعبي معاً، لكن جيري (جيروم روبينس) وأنا، ملنا إلى تعريف العمل بالمسرح الغنائي واخترنا عبارة غامضة لا تأسره في قالب ضيق». وصاحب الفكرة الأول هو جيروم روبينس: في 1949، على ما يذكر أرثر لورينتس، أراد جيري اقتباساً معاصراً من روميو وجوليت وتجري حوادثها في أحياء إيست سايد من نيويورك، وتوسم ب «إيست سايد ستوري»، وتتزامن الحوادث في الفصح اليهودي والكاثوليكي: «الكاثوليك هم آل مونتيفيو في مسرحية شكسبير، واليهود هم آل مابوليت. ولم يتعدَّ الأمر يومها هذا التصور، وانصرف كل إلى شأنه ومشاغله: لورينتس إلى مسرح نيويورك، روبينس الى تصاميم الرقص في نيويورك سيتي باليه وفي برودواي، بيرنتسين إلى كتابة أوبريت «كانديد» (1956) وقيادته الأوركسترا وإدارة أوركسترا نيويورك الفيلارمونية (1957). وفي آب (أغسطس) 1955، التقى بيرنستين ولورنتس على غير موعد، في فندق بيفرلي هيلز بلوس أنجليس، واستأنفا مناقشة الأمر في ضوء النزاعات العرقية في الأحياء المكسيكية بعاصمة كاليفورنيا. وروى بيرنستين في يومياته أن الرجلين استخفتهما الحماسة لفكرة روميو، وتخليا عن فكرة الصراع بين اليهود والكاثوليك، إلى فكرة أقرب إلى الوقائع: عصابتان من مراهقين تختصمان، الأولى عصابة مهاجرين بورتوريكيين جدد، والأخرى عصابة «أميركيين» متحدرين من هجرة البيض، وفجأت دبت الحياة في أوصال الإيقاعات والحركات وتراءت لي (بيرنستين) حظوظ عمارة المسرحية. وبدأ العمل. ودعا انتقال نزاعات العصابات المتخاصمة إلى الجهة الغربية من نيويورك إلى تغيير وسم العنوان. وسرعان ما رسم بيرنستين حدود «ويست سايد ستوري»: المسألة الأولى والعسيرة هي تمييز الأوبرا من برودواي، وتخليص الواقعي من الشعري، والباليه من «الرقص الخالص»، والمجرد من الصفة التمثيلية، وما ينبغي تجنبه هو النازع إلى إقامة الحجة والدليل. وحين أطلع بيرنستين الفريق على فقراته الأولى أقلقت حلتها الأوبرالية المتينة معاونيه. ولاحظ هو أن معاونيه يريدون التخلي عن أجزاء العمل الأثيرة عنده والأوقات الشعرية التي ينكرون صفتها الأوبرالية. وقال نايجيل سيميون معلّقاً على خواطر بيرنستين في يومياته: في المخطوطات صيغ مختلفة لموسيقى «إي بوي لايك ذات آي هاف إي لاف»، والصيغة الأولى تنزع إلى أوبرالية فخمة في حين أن الصيغ التالية والأخيرة أكثر ميلاً إلى الاختصار والبساطة. ولم يكتم بيرنستين اعتداده بعمله، وزعم أنه أنشأه، وهو نواة، على مبنى واحد هو الفاصل الرباعي المزيد، أو التريتون، على شاكلة مطلع اللحن المشهور «ماريا». وكان يسمى هذا الفاصل، في العصر الوسيط، «ديابولوس إن موزيكا» (الشيطان في الموسيقى) جراء منحاه المقلق الذي ينبئ، في «ويست سايد ستوري» بقرب المأساة. وهذا المبنى، على ما يروي نايجيل سيميون، تحول هاجساً ألح على بيرنستين. فكتب صفحة كاملة من الخطط التقريبية، تقوم كلها على الفاصل الرباعي المزيد. لكن هذا التماسك كان ثمرة صدفة ولم تصنعه خطة تأليف متعمدة. فما حمل المؤلف الموسيقي على تعميم الفاصل أوحاه إليه صاحب كلمات الأغنيات ستيفن سوندهِيْم (82 سنة اليوم)، ولم يكن حظي في 1957 بالإقرار به مؤلفاً موسيقياً كبيراً. وروى سوندهيم لسيميون أنه اقترح على بيرنستين تضمين بعض الأغنيات الفاصل العتيد، مثل «آي فيل بريتي». وعلى هذا، فزعم بيرنستين باطل، على ما يقول سوندهيم. ذلك أن نصف موسيقى «قصة الحي الغربي» مقتطع من أعمال بيرنستين الكوميدية والراقصة الأخرى، وهي خلو من الفاصل الرباعي المزيد. فشأن كبار المؤلفين الموسيقيين الآخرين، كان بيرنستين لصاً كبيراً. وهو «سطا» على موسيقى آرون كولاند وبول بويلز وآخرين لا يقلون شهرة عن هذين. وأوتي موهبة خلط «بقاياه» الموسيقية الخاصة. وعازف البيانو مايكيل باريت، وكان قريباً من الموسيقي، يذكر بترديده من غير كلل «حكمة» تنصح بحفظ الموسيقى كلها، فلن يتأخر الوقت الذي تجد فيه مناسبة تليق باستعمالها! ولعل «قصة الحي الغربي» المثال الصادق. فهي توليف استثنائي لمصادر وتقاليد متفرقة. فثمة دمج في بعض المقطوعات لخواتم باليه بقي طي الكتمان ويعود إلى 1941، «كونش تاون»، ولبعض نوطات من أوبريت «كانديد» على ما يلاحظ سيميون. وثمة محاكاة لتشايكوفسكي: فأغنية «ساموير» تستلهم نغماً من «بحيرة البجع» التي لا تخلو من إيحاءات عبرية. وفي بعض المواضع جرس شوفار، البوق القديم، كما نبّه الناقد الموسيقي جاك غوتليب في كتابه الرائع «فاني. إيت دازينت ساوند جويش». تصميم الرقصات في «ويست سايد ستوري» لا يزال على النحو الذي رسمه جيروم روبينس، وأثبته الإعلان الأول:» فكرة (المسرحية) الأصلية اقترحها جيروم روبينس». لكن صدارة روبينس غير المنازعة، وهو صاحب الأجزاء الراقصة من الفيلم، قد تحول دون اقتراح مصممين آخرين لاحقين تصاميم جديدة تماشي العصر وأطواره. وصرح كريغ أوركوهارت، وهو آخر مساعدي بيرنستين والساهر على نشر أعماله، لنا بالقول: على خلاف ظن شائع، لم تعرض مسرحية «قصة الحي الغربي» على الدوام في تصاميمها الراقصة الأصلية، وعلى رغم هذا فهي طرية طراوتها الأولى. وأوركوهارت لا يشك في أن التصاميم الراقصة جزء من نسيج العمل، ومعظم محاولات تجديدها إلى اليوم أخفق ولم يبلغ غايته. * ناقد فني ومحرر في الصحيفة، عن «لوموند» الفرنسية، ملحق «كولتور إي ايديه»، 27/10/2012، إعداد منال نحاس