لم يتنازل الإعلام عن عرشه العتيق كصانع للأكاذيب، في واحدة من مهماته «القذرة» التي لطالما انتعشت أوقات الحروب والنزاعات. وظل يُنظر إلى الإعلام دائماً بريبة، باعتباره خصماً للحقيقة. لكنّ الأخيرة تذرّرت حتى أضحى من الصعب تمييز الحقيقة من نقيضها. وقع الناس في وسط الدوامة، وعلِقوا بها. ولم يعودوا مع الوقت مجرد متلقين سلبيين لما تبثه وسائل الإعلام، بل أضحوا شركاء في صناعة الأكاذيب وترويجها. ويكفي المرء أن يتأمل مواقع التواصل الاجتماعي ليكتشف حجم الزيف، وقدرة الخيال على ابتكار الوهم، والنفخ في روحه. من زاوية أخرى، وفي ما خص الجماهير السائمة التي تتوجه إليها صناعة الأكاذيب، فقد كشفت التجربة وجود استعداد كبير لدى تلك «الجماهير» لتقبّل أي معلومة من دون تفحصها وتقليب النظر فيها. إن هذه المهمة الأخيرة صارت من مقتنيات المتحف، ولا يمارسها إلا القلة القليلة من «الفرقة الناجية» التي أخلصت لعقلها، واتبّعت سبيل المنطق، واعتصمت، من أجل الوصول إلى اليقين، بطرائق الاستقراء والشك الديكارتي. «الجماهير» التي لطالما تغنى الثوريون بوعيها، أثبتت أن ذلك الوعي عرضة للتبدّل والتغيّر من دون أدنى عناء. يكفي أن تردد على أي فرد منها الكذبة مرات عديدة، حتى يتشكل في ذهنه أنها واقع لا محالة لرده أو الطعن في صدقيته، حتى لو اجتمعت الإنس والجن. وحين تحاور هذه الفئة العريضة من الجماهير في شأن له صلة بالإقناع واتباع طريق العقل والإفهام، تصطدم بالحائط الشاهق الموصد، وتستذكر مقولة ذلك الحكيم الخبير: «ما جادلت جاهلاً إلا وغلبني»! ما يمكن استنتاجه من كون غالبية عناصر تلك «الجماهير» خبراء وعالمين في السياسة والاقتصاد والعلوم العسكرية والإستراتيجية، هو قدرة التماهي مع ما يُضخّ على مسامعهم من معلومات ليست بالضرورة صادقة إلا بمقدار ما تعبّر عن وجهة نظر الوسيلة الإعلامية وارتباطاتها السياسية. إن «الببغائية» سيدة الموقف في هذه الأحوال. إن العقل هاهنا موضوع على الرفّ. لا ضرورة لاستعماله. القضية لا تحتاج إعمال العقل، وإنما فقط التخندق والتمترس وراء الفكرة، وتسويق الذرائع التي تجعلها حقيقة أزلية. ولعل كثيراً من الذين لايزال التفكير العقلي والروح النقدية، وتفعيل النظر المنطقي في الأشياء والظواهر، يشكل رافعة أساسية في سيرورتهم الذهنية، يردّدون في لحظات اليأس العابرة قولة أبي ذر الغفاري: «مَا ترك الحق لي صديقاً»! إن من مخاطر غلبة تفكير «الأسطرة» على الفضاء العام، الانقضاضُ على طرائق التفكير العلمي، و»الثورة» على منجزات العقل. وهذا في المجتمع العربي يعد انتكاسة كبرى تُلجم طموحات أولئك الذين من انفكوا يراهنون على استنبات قيم التنوير والتفكير النقدي، لا سيما بعدما كشفت لنا استقطابات «الربيع العربي» عن السقوط المرعب لعقل المثقف «الذي كنا نظنه عضوياً» في مستنقع الشعبوية الآسن، ومناصرة الطغاة، وتعبئة ترسانتهم بذخيرة القتل والإقصاء والكراهية. في كتابه الجديد «أنظمة القوة» ينتقد نعوم تشومسكي ما يصفه بتواطؤ ميديا الإعلام وأجهزة الثقافة في المجتمع الأميركي على تغييب وعي الجماهير التي تتلقى الرسالة الإعلامية أو الرسالة الثقافية، وهو يطلق على هذه العملية «تصنيع الموافقة». فإذا كان المجتمع الأميركي يخضع لمثل هذه العملية غير الأخلاقية، فهل بمقدور المجتمع العربي أن يكون بمنأى عنها، مع قياس الفارق الحضاري بين الطرفين، وكذلك قياس الفارق الأخلاقي بين مهنية وسائل الإعلام الأميركية وتلك العربية التي لاتزال تصدر عن الفكرة «الغوبلزية» اللعينة عن تكرار الكذب حتى يصبح حقيقة نقية قابلة للتعاطي «على بركة الله»! ولقد أدى «تصنيع الموافقة» إلى إحداث انقسام عمودي في بنية «الوعي» العربي حداه قطبان متنافران شعارهما «مع» أو «ضد». ولكل فريق مبرراته في تسويق ما يعتبره الحقيقة الوحيدة الصادقة في الوجود. ومن أجل ذلك يحشد لفكرته العبقرية كل القرائن من أجل إفحام الآخر والإجهاز عليه، وبيان تهافت آرائه واستغراقها في الوهم والخديعة. لقد أفسد هذا الانقسام الحياة العربية، وفخخها. ويكفي أن تكون مدعواً لسهرة أو لقاء أو جلسة، لتلحظ هذا الانقسام، وعلو الصوت، واختلاف الأصدقاء إلى حد القطيعة، حتى إن أحدهم كتب على «الفايسبوك» إن ما يجري في سورية أفقده نصف أصدقائه، ثم جاءت الأحداث الأخيرة في مصر فأفقدته النصف المتبقي. * كاتب وأكاديمي أردني