يقدم الروائي المصري حمدي الجزار في روايته «الحريم» (دار صفصافة) حكاية عن ذوات تبحث عن وجود أرقى وسط مجتمع يتعامى عن حاجة البشر للحب، ولا يتورع عن فعل أي شيء ضد علاقة أساسية في الوجود الإنساني. الجزار مشغول منذ بداياته بالثنائية الأشهر: امرأة ورجل، وفي «الحريم» تبرز هذه الثنائية عبر وجوه ثماني عشرة امرأة يرسم الراوي لكل واحدة منهن حالتها الخاصة. ترجمت أعمال الجزار إلى لغات بينها الإنكليزية، والفرنسية، والهندية، وفي مسيرته ثلاث روايات، «سحر أسود»، «لذات سرية»، «الحريم»، وله أيضاً نصوص تحت عنوان «كتاب السطور الأربعة». هنا حوار معه. الكتابة موهبة، أم صنعة؟ - ما نسميه موهبة، ليس سوى نقاء كامن في ذات الفنان، من خلاله يستطيع أن ينفصل عن وجوده كفرد في عالم الكثرة، لكنه يحتاج إلى أن يكون ذا خبرة بنوع الفن الذي يمارسه. هنا يكون جانب الصنعة، أو الخبرة بالعمل الفني وأدواته من لغة وبناء وتشكيل وتجارب سابقة. هذه العناصر مهمة، لكنها في النهاية ليست الحكم. الموضوع أكثر تعقيداً، فوجود الصنعة والتقنيات والعلم بالمدارس الأدبية لا يصنع كاتباً حقيقياً، وإلا لكان النقاد هم الأقدر على صناعة عمل أدبي جيد، لكن الواقع يقول إن الفن يتجاوز ذلك وأن ثمة سراً خفياً ومتجدداً لا يمكن الإمساك به قد نطلق عليه موهبة، إلهاماً، لا يهم، المهم أن وجوده أساسي في إبداع الفنان. «الحريم» عنوان يبدو غريباً، هل الغرض إثارة الانتباه والترويج للرواية؟ - هو عنوان يفي بالغرض الفني، فالبناء العام للراوية عبارة عن أقسام أو فصول يحمل كل منها اسم امرأة: روحية، زبيدة، كريمة، أرزاق، بطة، سندس، أنس... وغالبية شخصيات الرواية تعيش في حي شعبي، «طولون». في الأحياء الشعبية يطلق تعبير الحريم من دون أي حرج وهو تعبير رفيع ونبيل، وهو تعبير ثري، فهو معجمياً يعني ما حرم ولم يمس، وحرم الرجل وحريمه: ما يقاتِل عنه ويحميه، والحريم: فِناء المسجد. والكلمة ذاتها تشير كذلك إلى المكان ذي الحرمة كالحرم المكي، والحرم الجامعي، والمكان الذي يجب الدفاع عنه ضد منتهكيه. هذه المعاني مجتمعة، فضلاً عن المبرر الفني، تعد سبب اختياري ذلك العنوان. في «الحريم»، يتعاطف السارد مع النسوة في الرواية بلا استثناء؟ - «سيد»، أو السارد، ومنذ بداية الرواية يبحث عن الحب، بالتالي فهو باحث عن الجمال، عن الجانب المضيء في موضوع غرامه. هو يسرد حكاية كل امرأة قابلها وحكاية حي «طولون». يتحدث من منظور الباحث عن معنى الوجود، والتحقق، والحب والعشق. وطالما أننا بصدد روح تبحث عن اكتمال من خلال آخر، فهذه الروح لا يمكن أن ترى في هذا الآخر إلا الجانب الجميل والإيجابي. حكاية «ماري» تجسيد لنظرة قديمة عن علاقة الرجل الشرقي بالمرأة الغربية، لماذا اخترت أن تصوغها على هذا النحو التقليدي؟ - لو نظرنا إلى قصة «سيد وماري»، نموذجاً، فستفجر داخلنا دلالات لقراءة علاقة الرجل العربي بالمرأة الغربية في «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، و «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح. ستأتينا هواجس أن المقدم في قصة «ماري» هو تجسيد لصورة قديمة ومستهلكة عن علاقة الرجل الشرقي بالفتاة الغربية، ولكن لو نظرنا إلى هذه العلاقة في إطار شخصية «سيد» كشخصية فردية لها تاريخ واضح، وشخصية «ماري» كفرد وليس كمعبر عن الآخر، أو كمعبر عن الغرب هنا يمكن اكتشاف دلالات وحدود أخرى. في «لذَّات سرية» ثمة احتفاء بالوصف وحشد التفاصيل، خصوصاً في ما يتعلق بالأماكن. - أتعامل مع المكان كشخصية إنسانية أو كجزء منها. في «لذّات سرية» كان الفصل الأول وعنوانه (نفق) أشبه ب «الأوفرتير» في المسرحيات الكبيرة، أو «أفان تتر»، في الفيلم السينمائي. كنت معنياً بحشد المكان بصيغة واقعية قي إطار رمزي، إذ يعمل الوصف على الدلالة والبعد الرمزي، لكنه يهتم في الوقت نفسه بألا تكون هناك زيادة عن الحاجة. «كتاب السطور الأربعة» أين تضعه في مسيرتك؟ وكيف تصنفه؟ - «كتاب السطور الأربعة» نشر الجزء الأول منه في سلسلة «حروف» (الهيئة العامة لقصور الثقافة) 2012، وصدر هذا العام مع الجزء الثاني منه عن دار «نفرو». وسعادتي به تفوق بكثير سعادتي بكل رواياتي السابقة لاعتقادي أنه تحربتي المبتكرة والفريدة قي صوغ بناء فني خاص، وطرح مبتكر لمشكلة الشكل الأدبي. وعلى رغم هذا، أنا لا أرغب في تصنيف هذا العمل. لماذا؟ - الجوهري والأساسي في ذلك العمل هو فكرة السطور الأربعة نفسها، تلك الوحدة الأساسية، وتصاعدها وتدفقها باستخدام الأرقام ذات الدلالات. عدم التصنيف غرضه إتاحة حرية أكبر للقارئ في تلقى العمل، سواء باعتبار أنه رباعبات شعرية، شعر، قصيدة نثر، رواية... إلخ. دراستك الفلسفة كيف انعكست على كتابتك؟ - وجود الفلسفة في شخصيتي ووعيي الفني، يشبه وجود الماء في جسم الإنسان. هي بالنسبة إليَّ قضية وجودية. هي قضية الباحث عن المعرفة، الحقيقة، غاية الوجود الإنساني. هي أسئلة وجودية تشغل بال كثر، وليس دارسي الفلسفة فقط. هذه الأسئلة الكبرى راسخة في وعيي، لكن تعبيري عنها لا يأخذ الشكل الفلسفي. كمبدع، استخدامي الفلسفة لا يتقيد بمفاهيم ومصطلحات محددة يعمل داخلها الفيلسوف بصفتها حقولاً معرفية موضوعة سلفاً. استخدامي لها يأتي عبر إنتاج عمل فني، وليس مقالاً فلسفياً. عقلية الباحث الأكاديمي المختص في مجال الفلسفة ذات المفاهيم والمصطلحات والمناهج والأبنية، مختلفة تماماً عن عقلية الكاتب الذي يعمل بالخيال والإبداع ليصوغ عملاً فنياً جمالياً. لا يمكنني العيش بعقلين، لذا لم أكمل مسيرتي الأكاديمية، وكرست حياتي للكتابة الأدبية، الرواية تحديداً. هل تعتقد بوجود وظيفة للأدب؟ - الكتابة كما أعرفها وأؤمن بها هي تقديم صورة صادقة وأصيلة عن الإنسان خارج الزمان والمكان. لكن البعض يرى أن ذلك يفضي إلى كتابة ناقصة؟ - في الأدب، لا بد من أن نبدع زماناً ومكاناً محددين، فهذه طبيعة الوعي الإنساني المعاصر، فضلاً عن أنها أدوات الفن حتى يمكن التعامل معه واستيعابه. ليس في هذا ما يعيب، لكن هناك شيئاً آخر أهم، هو فنية العمل وقدرته على التواصل مع قارئه، وعصره، والسياق الأدبي الراهن، وقدرته أيضاً على البقاء والاستعصاء على النسيان. في الرواية مثلاً هناك شخوص، أحداث، عقدة. ويشكل ذلك وجوداً ظاهرياً للعمل الفني، لكن ثمة وجوداً يتجاوز الوجود الظاهري، يصل إلى العمق من خلال إثارة الأسئلة الوجودية الأساسية والتماس مع المشكلات الأصيلة للإنسان. لك ثلاث تجارب في الكتابة والإخراج المسرحي، لماذا توقفت؟ - توقفت لأني وجدت أن العمل الفني الجماعي غير ملائم لطبيعتي، طوال الوقت هناك هوة بين خيالك وتصورك للعمل الذي تريده وبين أداء الآخرين. العمل المسرحي ينبني على مجموع، من ممثلين وديكور وموسيقى، سيطرة المبدع على كل هذه المكونات في مجال العمل المسرحي سيطرة غير تامة، بينما تتجلى هذه السيطرة أكثر في العمل الفني المكتوب رواية، قصة، شعر، لذلك توقفت. ترجمت أعمالك إلى لغات عدة، هل تكفي الترجمة للقول بوجود الكاتب في ثقافة أخرى؟ - الترجمة تعني أن الكاتب موجود في لغة ما، وأن هناك قراء لا يجيدون العربية ولا يعرفونها يستطعيون التواصل معه. هذه نقطة مهمة. النقطة الأخرى تتمثل في أن الترجمة معبر لثقافة أخرى. كل أدب يعنى بالإنسان بصرف النظر عن الزمان والمكان، وهذا ما أحاول التعبير عنه. دائماً أوجد حالة من قبول التواصل مع أعمالي لدى القارئ الهندي والأميركي والأسترالي. فهذا إنما يدل على جزء من اكتمال وصول العمل لقارئه، وهذا أمر شديد الأهمية بالنسبة إليّ. هل تعتقد أن ثمة معايير ينبغي توافرها في الأدب العربي المترجم؟ - نعم، لكن علينا أن ندرك أولاً أن الغرب لم يصنع هذه النصوص العربية التي ترجمت إلى لغته، هي موجودة في العربية أصلاً. لكن هناك انتقاء لنصوص دون غيرها... - صحيح، لكن فكرة الانتقاء نفسها قائمة على الدوافع، أهمها دوافع معرفية لا أدبية ولا علاقة لها بالقيمة الأدبية للعمل المترجم، لكن بالرغبة في التعرف إلى المجتمعات العربية، بخاصة في الفترة التي أعقبت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 تولَّد نهم شديد لدى الغرب لقراءة الأدب العربي بغرض معرفي وليس بغرض فني أو أدبي. هناك دوافع كثيرة متعددة لكن على رغم عملية الانتقاء التي تتم وأياً كانت نحن الذين نصنع النصوص سواء «عمارة يعقوبيان»، أو «بنات الرياض»، أو غيرها. معظم أدباء العربية الكبار، أمثال طه حسين، يوسف إدريس، ويحيى حقي، ونجيب محفوظ، مترجمون إلى الإنكليزية على الأقل، ومنذ وقت مبكر، وقبل حصول محفوظ على نوبل، ربما كانت أعداد الأعمال المترجمة أقل لكنها كانت موجودة. الحرص على الترجمة، هل يتحكم في مسارات الكتابة؟ - أي كاتب يحرص على إرضاء قارئ أو ناقد أو مترجم أو ثقافة ما، لا يصح أن يكون كاتباً، فالكتابة تحتاج إلى تجرد ونزاهة، وصدق، والفن الحقيقي لا يأتي إلا بعد تخلصنا من الأوهام، بما فيها أوهامنا عن إرضاء الآخر، سواء كان قارئاً أو ناقداً، أو مترجماً، أو عوامل تجارية، مثل البست سيلر، والجوائز الأدبية. الحجة الوحيدة على الإبداع وقيمته هي العمل الأدبي نفسه. «نوبل» بدأت منذ مئة عام تقريباً وهناك مئة كاتب حصلوا عليها، لو تأملنا الذين يعيشون في الوجدان الإنساني من بين هؤلاء المئة فسنكتشف أن عددهم لا يتجاوز عشرة كتاب فقط. الحجة الأولى والأخيرة على الإبداع هي العمل الأدبي نفسه وقدرته على التواصل مع المتلقي والبقاء ومقاومة النسيان. النص الجيد يستعصي على النسيان. لكن، وعلى جانب آخر الجوائز الأدبية مهمة للفت انتباه القارئ إلى أعمال أدبية معينة. هذا أمر مرهون بقرار لجنة تحكيم معينة في زمن محدد ربما وفقت في اختيار عمل جيد، وربما يحصل العكس.