اذا كان الرئيس بشار الأسد قد «نجح» في شيء خلال مواجهته القائمة مع شعبه ومع معظم المجتمع الدولي، فهو في الانقلاب الذي أحدثه في نسق تفكير ادارة الرئيس باراك اوباما حيال هذه الأزمة وحيال احتمالات التدخل العسكري فيها. نحن إذن أمام أوباما جديد لم نتعرف عليه لا خلال الولاية الأولى ولا في السنة الأولى من الولاية الثانية. كان أوباما متردداً في توريط قواته في أي عمل عسكري خارج حدود بلده، وهو الذي جاء إلى البيت الأبيض مع وعد بسحب القوات من المناطق التي تورطت فيها في ظل إدارة جورج بوش، وخصوصاً من العراق وأفغانستان. وحتى قبل أيام معدودة كان أوباما يعيد تأكيد موقفه الحذر هذا في رده على استخدام النظام السوري الأسلحة الكيماوية في ريف دمشق. وبكلمات واضحة قال في حديثه الأخير إلى محطة «سي أن أن»: لا تزال الولاياتالمتحدة البلد الوحيد الذي يتوقع الناس أن يفعل أكثر من مجرد حماية حدوده. لكن هذا لا يعني أن علينا أن نتورط في كل شيء على الفور... يجب أن نفكر بطريقة استراتيجية في ما سيكون في مصلحتنا الوطنية في الأمد الطويل. ومضى اوباما الى القول: «نرى جهات تطالب بعمل فوري، لكن التسرع في أمور قد تكون نتيجتها سيئة سيغرقنا في اوضاع صعبة، ويمكن أن يجرنا إلى تدخلات معقدة جداً ومكلفة ولن تؤدي إلا إلى تأجيج مشاعر الحقد في المنطقة». ما الذي تغير خلال هذه الأيام القليلة ودفع أوباما إلى اتخاذ قراره بوضع خيار اللجوء إلى القوة على الطاولة لمعاقبة النظام السوري؟ لخّص وزير الدفاع تشاك هاغل في حديثه أمس إلى محطة تلفزيون هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) أسباب هذا التغيير بالقول إن هناك قناعة تامة وقليلاً من الشك لدى معظم حلفاء الولاياتالمتحدة في أن النظام السوري خرق أبسط حدود السلوك الإنساني المقبول باستخدامه أسلحة كيماوية ضد شعبه. وأكد الوزير أن أي رد من جانب الولاياتالمتحدة سيكون بالتفاهم مع المجموعة الدولية وضمن حدود القانون الدولي. لم يكن ممكناً أمام مناخ دولي من هذا النوع وضغوط بهذا الحجم أن يستمر وقوف الولاياتالمتحدة موقف المتردد حيال اتخاذ قرار حاسم في مواجهة تفاقم النزاع في سورية ووصوله إلى هذا الحد من العنف، ومن استهتار النظام بأرواح مواطنيه. فلا المسؤوليات الدولية الملقاة على عاتق الولاياتالمتحدة ولا الدور الذي يتولاه باراك أوباما كقائد لأكبر قوة عسكرية في العالم تسمح بموقف المتفرج على هذه المأساة المتمادية التي بلغت حداً من الخطر أصبح يهدد أمن منطقة الشرق الأوسط بأسرها. يتذرع النظام السوري في رده على الائتلاف الدولي الذي يتشكل لمعاقبته بأنه بريء من تهمة الكيماوي. غير أن النظام السوري، مثل أي نظام آخر، هو الذي يتحمل مسؤولية حماية أرواح مواطنيه المدنيين. وإذا لم يستطع القيام بذلك ومنع جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكب على أرضه (وبصرف النظر عمّن يرتكب هذه الجرائم)، يصبح من واجب المجتمع الدولي التدخل لوقف هذه الارتكابات، من دون أي اعتبار لمسألة السيادة الداخلية التي أصبح يتذرع بها كثير من الأنظمة المجرمة لحماية «حقها» في ارتكاب المجازر. هذا هو المبدأ الذي بات متعارفاً على تسميته R2P أو المسؤولية عن الحماية (responsibility to protect)، وهو المبدأ الذي تم إقراره في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2005 والذي تتحمل الأسرة الدولية بموجبه مسؤولياتها حيال جرائم العنف الجماعي حيثما ارتكبت. فالمجتمع الدولي يقوم على احترام عدد من المبادئ الإنسانية، وفي مقدمها ضرورة توفير الظروف اللازمة لحماية أرواح المدنيين عندما يتم انتهاكها، سواء كان ذلك من جانب الأنظمة التي يفترض أن تحميهم أو من جانب قوى خارجية تعتدي عليهم. لقد فاقت الارتكابات التي أقدم عليها النظام السوري في مواجهاته مع المعارضة كل مستويات العنف والقتل التي يمكن أن يرتكبها أي نظام. وجاء استخدام الأسلحة الكيماوية في غوطتي دمشق ليبدد كل الأوهام التي كانت ما تزال تراود البعض من أن بشار الأسد لا يمكن أن يفعل ذلك! تكفي مراجعة مسلسل المجازر لتؤكد لنا أنه فعلها وأكثر، فالنظام الذي يفاخر، هو وحلفاؤه، بأنه لا يمانع في إحراق المنطقة من أجل البقاء، لا يتردد أمام إحراق غوطتي دمشق، خصوصاً إذا كانت ستؤدي إلى الحد من أعداد الاطفال الذين سيكبرون في المستقبل ليصبحوا... معارضين.