من المعروف امتداد الفكر الإخواني وخروجه إلى ما وراء مكان النشأة الأولى، استعراض التاريخ يؤكد أن تلك الأفكار تمكنت في مرحلة من المراحل أن تنفذ إلى نفوس الكثير من المسلمين، حتى غدت من أبرز الأحزاب الإسلامية المؤثرة، والقادرة على تشكيل أفكارها وزراعتها بسهولة في عقول الأتباع، ذلك أنها تحاكي الجانب الروحاني لدى الأتباع، وتعزف كثيراً على قضايا الأمة الإسلامية، ومن الطبيعي أن تتغلغل تلك الأفكار في الأذهان التي تهرع إليها بقبولٍ ورضا تامين، وعلى مرّ العقدين الأخيرين أصبحت أفكاراً توّلد القبول والطمأنينة الروحانية.. الأمر الذي لم يتنبه إليه الأتباع؛ ممن يتلقى تلك الأفكار على أنها محض الصدق وغاية الإيمان، هو أن الحركة مؤسسة على أساس سياسي نفعي وصولي، يهدف إلى الوصول للسلطة والسيطرة على الأماكن ذات الصفة القيادية، حتى تضمن قوتها وقدرتها على الحراك وتحقيق الأهداف بيسر وسهولة. خلال تلك المرحلة الممتدة على مدى ثمانية عقود، كان المثقف العربي هو المدرك الوحيد للفكرة، وقد سعى إلى تفكيك أهدافها وتوضيحها تقريبها فهمها للعامة، وهو ما جعل الجماعة تعمل على تصنيف المنتقدين لها والمنظرين لأفكارها ضمن فئة المارقين على الدين وأعداء الله، ولم يلبث التصنيف كثيراً حتى تشربته نفوس الأتباع وآمنت به، وقد اشتد الصراع خلال السنوات الماضية بين المثقف العربي الذي يعمل على كشف الجانب الخفي الموارب لتوجه الجماعة، مقدماً أعماله في سياقات تدلل على خطورة ما تعتنقه الجماعة من أفكار مقدسة من وجهة نظرها، فيما تفرغ التنظيم الحركي للرد على تلك القراءات التفكيكية تارة باستخدام عصا الدين ووصمها بالمخالفة للشريعة الإسلامية، وتارة عن طريق الجانب الحركي من خلال عمليات حركية تهدف إلى إيصال فكرة عامة عن قوتهم، وما يتمتعون به من بسالة تأخذ بالقوة ما لم يأتِ عن طريق محاكاة القلوب واستمالتها؛ حتى يفهم المخالف أن التنظيم يمتلك قوى وأجندات حركية تؤدي دور المنفذ على الأرض، مع إيهام الأتباع بأن تلك الأفعال الحركية إنما هي حرب ضروس ضد أعداء الدين ومريدي الإسلام بالسوء. ومع تطاول السنين لم تتمكن الجماعة من مواربة أهدافها الخفية، وأدى ذلك إلى افتضاح الأمر نتيجةً لتنوع وسائل التلقي وبخاصة الثورة المعلوماتية وعصر الإنترنت، وهو ما أدى إلى بداية تشكل وعي جماهيري مختلف، قادر على التفكير باستقلالية تامة، نتيجة لذلك بدت تطفو على السطح شرارة الثورة على من كان يمارس التفكير للآخرين بالإنابة، وهو ما أضحى يشكل خطراً حقيقياً على وجود الحركة، ذلك أن الأتباع في تناقص مستمر، والعقول تتحرك وتخلق الأسئلة وبخاصة أتباع الأمس، ممن كانت تؤمن بفكر الجماعة، وغدت تعمل على توجيه القراءات النقدية للجماعة من الداخل، ذلك أنها تتذكر جيداً كل الإملاءات التي تلقتها زمن الإيمان الماضي، وتعرف تماماً السرّ الذي يعمل على ترويج وتوجيه الرأي الجماهيري، والقدرة على تشكيله كوعي وترسيخه وفق متطلبات المرحلة. ولأن المؤسسات الثقافية التي ينضوي تحتها المثقفون، هي الفاعل والمحرك من خلال من ينتمي إليها ويستظل بها ممن اشتغل منذ وقتٍ مبكر على إفساد المشروع؛ فإنه من المهم لدى الجماعة الالتفات إلى المعيق الأبرز على الطريق، وبدهياً أن تشكل المؤسسات الثقافية هدفاً مرحلياً قادماً بوصفها المختلف الواضح، يظهر ذلك من خلال ما يبدو بالتخطيط المنظم أو الترتيب المسبق، إذ إن قراءة بسيطة لمستجدات الأحداث كفيلة بتسليط الضوء على انضمام الجماعة للمؤسسات الثقافية، وبخاصة مع بداية انطلاق التجربة الانتخابية الجديدة لأبرز المؤسسات الثقافية السعودية «الأندية الأدبية» كمثال، والدخول في جمعياتها العمومية عن طريق تحريك من تبقى من الأتباع المضمونين ولاءً والمؤمنين بأهداف الجماعة، العاملين على تحويل التنظيرات إلى أفعال محسوسة، ممن لا يزالون يصادقون على فجور الآخر ومروقه على الله والدين، من خلال ذلك يتم الالتفاف على الابن العاق وضمان بقائه تحت السيطرة، وبالتالي القضاء على الدور التنويري للمؤسسة الثقافية، واحتواء أفكارها وتوجيهها في اتجاه لا يفسد الهدف السامي للجماعة، وكأقل الضررين «إن لم يكن التوجه الثقافي مؤازراً لمشروعهم، فإن السيطرة على المؤسسات الراعية للفعل الثقافي سيضمن تحييدها، والمهم هو قمع وإسكات المثقف وخفت صوته داخلها»، وبذلك يتم القضاء على الخطر المقوض لتطلعات الجماعة، والعامل الأهم في تفكيك الفكر الناتج منهم، من خلال ما تشكله أعمالهم وقراءاتهم النقدية والفكرية على وجود الجماعة فضلاً عن تبني أفكارها. ما شكله المشهد من إقبال الجماعة على المؤسسات الثقافية بعد عزوفهم عنها دهراً طويلاً، وتلك الحالة التي أظهرت المشهد مشوهاً؛ كل ذلك يشير إلى أن تدخلاً ما عمل على حبكة السيناريو حتى يبدو غوغائياً موغلاً في العبثية، ومن ثم تحويل المثقفين المنتمين إلى تلك المؤسسات إلى مجرد أفراد متناحرين ومنشغلين بتقويم الإجراء الجديد في تاريخ المؤسسة الثقافية «انتخابات الأندية الأدبية»، هذا ما يصور المثقف أمام الوعي الجماهيري على أنه باحث عن الأضواء فقط، لاهث وراء الكرسي، أرعن لا يجيد التحكم في ضبط انفعالاته، بحيث يصبح من السهل أمام الجماعة تعزيز إقصاء المثقف وتكريس عزلته، عن طريق إثارة سؤال كبير أمام الجماهير، وتقريبه وتبسيطه إلى الذهنية الجماهيرية، واستثمار التجربة السابقة للتأثير في العقل الجمعي، بطريقة الزج بسؤالٍ عريض كناتج طبيعي وحتمي لدى الذهنية الشعبوية، حتى يتم استشفاف السؤال المهم، عن كيفية منح الثقة والاهتمام بما يقوله ذلك المثقف وهو لم يستطع الخروج من أزمته أو ضبط انفعالاته، بل إنه ما إن يوضع على محك الديموقراطية وممارسته لفعل الانتخابات بدا مهترئاً أمام الجميع، وظهر أنه غير قادر على التفكير لنفسه فضلاً عن تفكيره للآخرين وتشكيل وعيهم، وبدت أفكاره التي يدعي أنها تنويرية لا تخرج عن إطار العبث والبعثرة للمجتمع المتماسك، الذي بنى نفسه على أساس إسلامي قويم، يستمد أفكاره وكل حراكه من التوجيه الإلهي، ومن جديد الاستفادة من التأكيد على معية الخالق. أمام هذا الحراك الجديد يتم تعزيز الفصل ما بين المثقف والمجتمع، ووضعه في مكانٍ قصي بعيد عن المشهد، وهو ما يتيح للتنظيم استغلال المساحة وملء الفراغ «بتكتيكية مرحلية». * كاتب سعودي.