على أكتافهم قامت «داعش». وبأيديهم ذبحت «داعش». وبأرجلهم لعبت «داعش» مباريات الكرة برؤوس من ذبحوا. وعلى أجسادهم ترقص دول كبرى وتقفز أخرى صغرى ويعاد ترسيم ثالثة شربت مقلب «داعش» والدواعش. الدواعش، هذه الوجوه الشابة المفعمة بحياة تبحث عن الآخرة، والقلوب الممنية نفسها بجهاد يؤدي إلى جنة حيث كل ما وُعِدت به، والعقول المشبعة بمعتقدات ومعتنقات أقرب ما تكون إلى المحافل السرية، وتنظيم القاعدة في قتاليته، والنوادي الرياضية في شبيبتها، كيف أصبحت على ما هي عليه الآن؟ وفي محاولة لمعرفة سر هؤلاء الشباب، وكيف فقدتهم الدول العربية فتحولوا قوة تضرب المستقبل عوضاً من أن يكونوا قوة ترسمه، عقدت طاولة مستديرة قبل أيام في مقر المجلس العربي للطفولة والتنمية في القاهرة. «داعش تنظيم وافد أم صنعناه؟»، سؤال في ظاهره استفهامي لكنه يحمل قدراً من تأنيب النفس ولوم الذات على ما اقترفته دول المنطقة بحق شبابها على مدى عقود، تجاهلاً وتغييباً وتهميشاً، وهو عنوان اللقاء الذي رعاه الأمير طلال بن عبد العزيز بحثاً عن عوامل الجذب التي وجدها شباب ومراهقون مسلمون في «داعش»، فهجروا بيوتهم وأسرهم، وتركوا بلدانهم وجامعاتهم وأعمالهم، وتوجهوا إلى «دولة الخلافة الإسلامية في العراق والشام». «جماعة الإخوان المسلمين هي المرجع الأصلي والأكبر لكل تلك الجماعات المسلحة والمتطرفة في المجتمعات العربية» حسبما قال الباحث في الإسلام السياسي السيد أحمد بان، الذي وجد في فكر الجماعة الأشهر في مصر بقواعدها الطلابية والشبابية، المرجعية الفكرية لكل ما تولد من جماعات منذ مطلع عشرينات القرن الماضي. «من حركة إحياء إسلامي إلى انحراف سريع بعد أقل من عقد، حيث تهافت على السياسة ومعاداة للخصوم وتبنٍّ لفكر يناقض الدولة الوطنية، وأخيراً توجيه السلاح للمصريين»، هكذا حمل بان الجماعة مسؤولية تصدير فكر الترهيب منذ التأسيس. لكنه لم يلغ مسؤولية الدولة التي تعتبر مؤسساتها هي المسؤولة عن صيانة العقل والوجدان الوطني، بالإضافة الى تقلص دور الأزهر، ما فتح الأبواب على مصاريعها أمام الأفكار المتطرفة وهو ما اجتاح عقول الشباب الذين تركوا نهباً لطرفي نقيض: التطرف الديني والانفلات الأخلاقي. دس «السم بالعسل» بين الشباب هو ما تحدث عنه الإخواني المنشق ثروت الخرباوي الذي ذاق هذا الطعم المتميز عبر ما ذكره مؤسس الجماعة حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس للشباب، من أن «الجماعة ستستخدم القوة ذات يوم لا محالة، وقتها ستنذر قومها، وسيكون ذلك آخر الخطوات التي تقوم حتى تقيم دولة الخلافة». ودولة الخلافة هي ما سعى إليه الشاب المصري أحمد الدروي الذي كان ضابط شرطة استقال من عمله قبيل ثورة يناير «اعتراضاً على عمليات التعذيب التي كانت تمارسها الداخلية» كما قال. وتحول أحمد إلى ناشط سياسي وثوري أصيل إبان ثورة يناير، وأثناء حكم الإخوان، رشح نفسه لعضوية مجلس الشعب (البرلمان). ثم صار من أبرز المشاركين في اعتصام «رابعة». وفجأة كتبت صحف الإخوان أنه توفي بعدما خضع لجراحة استئصال ورم سرطاني. لكن سرعان ما ظهرت حقيقة «الورم السرطاني» الذي أنهى ضابط الشرطة السابق الذي قتل في إحدى عمليات «داعش» في سورية بعدما اتضح أنه كان قيادياً «داعشياً». لكن هل «داعش» و «الإخوان»، وجهان لعملة واحدة؟ يرى الخرباوي أن «العلاقة هي علاقة دم وليست علاقة تبن، وأن من شباب الإخوان من انضم إلى «داعش» قبل فترة، ويقاتلون إلى جانبها». وهناك كما هو معلوم أساليب عدة تتبعها التيارات المتطرفة لاستقطاب الشباب، منها تبني جماعة الإخوان تنظيمات سرية حتى تبدو كأن لا علاقة لها بها. ويقول الخرباوي: «الجماعة الإسلامية ابنة للإخوان، وكذلك جماعة الجهاد التنظيم السري للجماعة وضعت خطة لتشكيل مثل هذه الجماعات والخلايا، للاستعانة بها وقت اللزوم، وقد لزم الوقت». ومن وجهة نظر أمنية، رأى الخبير الاستراتيجي اللواء محمود خلف في المسألة «خروجاً للدول من الخدمة» في منطقة الشرق الأوسط، حيث يزج الشباب في تنظيمات ذات أفكار دينية مغلوطة قائمة على التكفير والذبح والسبي والجهاد في الدنيا بحثاً عن الجنة في الآخرة. ويقول: «الدول العربية أصبحت تعج بالمنظمات الإرهابية والمجموعات السرية القائمة على جذب الشباب العربي وغير العربي لا سيما من أبناء المهاجرين والمعتنقين الإسلام حديثاً والباحثين عن المغامرة، لذا لا يمكن أي دولة أن تواجه الإرهاب وحدها». وعن مواجهة الإرهاب يقول أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة الدكتور جمال عبد الجواد: «نحن أمام تحد تاريخي، وهناك فواتير تأخرنا في سدادها لكن وقت السداد حان». مأساة الدول العربية المتمثلة في جمود التفسيرات الدينية وتحجر الأيديولوجيات السياسية وتجذر فساد الحكم وموت المشاريع الثقافية وتقلص السلوكيات الحضارية وانعكاس ذلك على الشباب الذي يمثل أكثر من نصف التعداد العربي، يتبدى في «داعش» و»دواعشه». الباحث أحمد بان يرى أن لا مفر من إتاحة واقع اقتصادي يسمح بالتنمية لمواجهة التطرف، «فالشباب العربي يعاني تدني التعليم، وضيق الأحوال المادية والمجتمعية، ما يجعله فريسة سهلة للمتطرفين الذين يعدونه بالخروج من ضيق الدنيا إلى نعيم الآخرة». وإلى أن يتاح هذا الواقع الاقتصادي، وتحدث ثورة ثقافية حقيقية، تدور الدوائر المفرغة بين جماعات قادرة على اجتذاب الشباب وأنظمة قادرة على ترك شبابها نهباً للجماعات وأخرى استيقظت لتسدد فواتير عقود مضت.