ليست مهمة المؤرخ سرد الحوادث والوقائع وحسب، بل يجب أن تتعدى مهمته إلى النظر في الجمع بين الروايات والتوفيق بينها وتمحيصها وطرح الرؤى المختلفة، التي تناسب ما استجد من وثائق وما ظهر من معطيات كانت يوماً ما سراً خافياً، كل ذلك يجب أن يقدمه المؤرخ بإخلاص وأمانة للجيل الذي لم يعايش الحدث، ليرسم له المشهد التاريخي مقترباً من الحقيقة التي لا بد أن تكون نسبية، مهما حاول المؤرخ التجرد ورفع لواء الموضوعية، التي ستبقى وهماً يعجز المؤرخ أن يلتزم بها لأسباب موضوعية وذاتية، لا يستطيع ذلك المؤرخ الانسلاخ عنها وإن اجتهد في ذلك، فإذا تخيلنا المؤرخ بلا فكر وخلو من أي قناعات - ولا ينبغي له ذلك - عند ذلك قد يكون موضوعياً حيادياً، وهذا مستحيل بالتأكيد لصعوبة تحقق هذا الشرط، لذا فغاية ما يجب على المؤرخ هو تحكيم الوثائق ومادة التاريخ الأصلية واستنطاقها والابتعاد عن الذاتية في تحليل تلك الوثائق وفي الربط بين الحوادث، وعدم الوقوع في أسر العبارات الإنشائية والألفاظ السلبية التي تُفْقِد المؤرخ هيبته وتكشف مواقفه المسبقة من الأحداث والأشخاص، كما يجب على المؤرخ الذي يريد اقتحام فترة زمنية أو حدث يراه مؤثراً ويريد إعادة كتابة تاريخه، فإنه لن يأتي بشيء جديد ما دام غارقاً في السرد، بل عليه تقمص تلك الفترة التي وقع الحدث فيها والانتقال بإحساسه ووجدانه إليها وتلبس أفكارها وظروفها واستحضار شخوصها أمامه، يحدثهم ويتحاور معهم ويتصور أنه يشاهد ما يكتب عنه. يفعل ذلك لكي يقدم وصفاً ونقداً لتك المرحلة وفق ظروفها التاريخية والزمنية ومعطياتها الثقافية والاجتماعية، بعيداً عن العصرنة والنظر إلى ما حدث قبل قرن من الزمان بمنظار اليوم، فإن هذا بلا ريب ظلم لأهل ذلك الزمان. إننا نُعاني من الغموض الذي يحيط بتاريخنا الحديث في جزيرة العرب، فكلما توغلنا في سحيق تلك الفترة التاريخية، أخذ ذلك الظلام التاريخي يتبدد كلما تقدمت السنون وصولاً إلى زمننا الحالي. على أن دراسة تاريخ منطقتنا في عصرها الحديث والمعاصر وإن كانت تعاني من تلك الضبابية والندرة في الوثائق والمدونات التاريخية خاصة الوصفية الموثقة منها، إلا أنها تتميز عن غيرها من فترات التاريخ بأنها - بحكم حداثتها الزمنية - ما زالت تنتقل إلينا عن طريق أفواه الرواة كشهود عيان أو ناقلين. وفي مجال الدراسات التاريخية، التي تتناول تاريخنا الوطني، رأيتُ عبر ما يطرح التركيز بشدة على قضايا يتم تكرار ما يُنشر عنها من بحوث ودراسات، بينما يتم تجاهل أحداث أخرى، وهنا نميز بين فترتين تاريخيتين على سبيل المثال، الفترة الأولى، هي التي سبقت فتح الرياض في شوال 1319ه، والفترة الثانية ما بعد فتح الرياض، الذي شكل بداية انطلاق بناء الدولة السعودية الحديثة، فبينما هناك وفرة بحثية للفترة الثانية تصل إلى حد الطفرة، هناك في المقابل فقر في الدراسات التي تتناول الفترة الثانية على الصعيد العسكري والسياسي والاجتماعي والثقافي. من هنا جاءت فكرة هذا الكتاب وتناوله لحدثٍ مهم في تاريخنا، يرتبط ارتباطاً عضوياً لا ينفك بحال عن تاريخنا الحديث، الذي صنعه المؤسسون العظام من أجدادنا بقيادة الملك عبدالعزيز آل سعود رحمهم الله جميعاً، إذ تناولنا حدثاً هاماً ومؤثراً في تاريخنا القريب وهو كون الصريف، الذي طالما تم تجاهله والإعراض عنه على أهميته كمعركة حاسمة أسهمت إلى حد كبير في رسم خريطة بلادنا ومعالم تاريخنا، فكانت هذه المعركة الممهد والإرهاص لما جاء بعدها، وليس هذا من قبيل الإنشاء والتلميع، بل هو حقيقة تاريخية سيلمسها القارئ الكريم في ثنايا هذا الكتاب. إن كون الصريف لم يحظ بما يجب من البحوث والدراسات حوله كحدث عسكري صَنَع مستقبل المنطقة، فحيز سطر أو سطرين في مقرر التاريخ المدرسي عن الصريف لا يكفي وفاء لهذا الحدث العظيم، كما لا يجدي كذلك عمل درامي في تصوير الحدث ذاته، مع ما يكتنف هذه الأعمال من ضرورة فنية ومعالجة تأتي على حساب الحقيقة التاريخية وتخل بها وتقتطع جزءاً منها أو تكيفه بحسب الأهواء السياسية القائمة، ولا نريد أن نختزل هذا الحدث الكبير على مستوى المنطقة بمشاركة في منتدى قبلي تفوح منه رائحة العصبية، التي تزكمُ أنف التاريخ وتغتال الحقيقة، ولذلك يستحق كون الصريف دراسة تاريخية موسعة وشاملة. * من مقدمة الكتاب الصادر عن «جداول للطباعة والنشر والتوزيع»، للباحث السعودي