يرى جاك لوغوف في كتابه «التاريخ الجديد»، الذي صدر عام 1978، بأن كتابة التاريخ في فرنسا وأوروبا باتت في شكل عام تعتمد على أنواع جديدة من المصادر (مثل دفاتر العدول - التاريخ الشفوي - التراث المادي) حيث اخذ يسلط الضوء عليها من زوايا جديدة بنوعية التساؤلات المطروحة وتعدد المناهج المتداولة. فلم يعد تاريخ الأمة هو ذاك الذي يمثله تاريخ الجنرالات والشخصيات الذائعة الصيت، بل أقحم التاريخ الجديد بكل المغيبين والهامشيين وذلك من خلال دراسة المتروك من المصادر والفئات الاجتماعية الغائبة، التي أهملت في أكثر الحالات من النصوص المصدرية لمصلحة الشخصيات البارزة. وأخذ هذا التحول الجديد يقاوم بشدة التاريخ السياسي لاعتقاده بأن هذا التاريخ المملوء بالوقائع والأحداث، ما هو الا واجهة يتخفى وراءها الدور الحقيقي للتاريخ الذي تدور أحداثه في الكواليس، وفي البنى الخفية التي يتوجب الكشف عنها وتحليلها وتفسيرها. وقد توصل جاك لوغوف في نهاية كتابه الى القول، إن التاريخ يعيش اليوم «ثورة وثائقية» و «ثورة في المناهج والأدوات»، ربما ستعيد الى تأسيس تاريخ لم نعرفه منذ قبل، وتمكننا من دخول غابة التاريخ بدل الاكتفاء برؤية الأشجار. ولعل المتتبع لما ينشر من كتب تتعلق بالتاريخ الإسلامي المبكر أو المعاصر في الساحة المشرقية العربية، يلاحظ وبخاصة في السنوات الأخيرة ركوداً واضحاً من ناحية المقاربة والمعالجة الجديدة، حيث اخذ الكم الأكبر من الدراسات المنشورة يعيد إنتاج الأخطاء المنهجية نفسها، ويؤسس لتاريخ يعتمد على ثقة بعض شيوخ المؤرخين الذين بسلطتهم العلمية اقنعوا البعض بكفاية وصحة رواياتهم من دون أي حاجة الى معاودة البحث فيها. وتبدو الأمثلة حول هذا الأمر عديدة، منها ما تشهده المنطقة اليوم من حديث عن دفء العلاقة بين العرب والأتراك، من دون أي محاولة عربية جادة لمراجعة تاريخ العلاقة، مع إدراكنا التام لخطر توحيد الوعي التاريخي والوعي المدني الذي قد يتيه ويتيه على أثره البحث التاريخي. حيث لا تزال التصورات والرؤى الماركسية والقومية تفعل فعلها في هذا التاريخ الطويل من العلاقات، وذلك على عكس الأتراك الذين شهدت ساحتهم الأكاديمية تعدد المؤرخين الذين باتوا يعيدون قراءة تاريخ السلطنة، ولكن بمناهج جديدة وبوثائق متعددة جعلت القارئ العربي أحياناً يصاب بدهشة من ناحية غناها وطرحها العلمي والموضوعي. وسأشير هنا الى الدراسة المهمة للغاية والتي لم تحظ بنقاش واسع من قبل مؤرخي الوعي القومي العربي وهي للباحث التركي حسن قايالي عن «الحركة القومية العربية بعيون عثمانية»، حيث أعاد فيها قراءة السنوات الأخيرة من تاريخ العثمنة، وما أثارته تلك الفترة من أساطير ومواقف إيديولوجية ما نزال نراها مراراً وتكراراً في الدراسات العربية حول السنوات الأخيرة من تاريخ العلاقة، الذي غلب عليها برأي البعض محاولات لطحن العناصر الأخرى في الجرن التركي. بينما كانت تعبر بالحقيقة برأي قايالي عن خلاف جمعية الاتحاد والترقي وبعض الأطراف الأخرى حول المركزية واللامركزية، وعن ضعف في جملة من العوامل المؤسساتية والهيكلية لا العقدية، وبأن تبلور الوعي القومي في سورية تحديداً كان يعبر عن قلق أبناء المنطقة من عدو خارجي غربي وضعف الخلافة الإسلامية على التصدي لهذا الغزو. ولعل خير مثال على هذه النظرة التقليدية للعلاقة مع العثمانيين ما عبر عنه المفكر القومي العربي خير الدين حسيب في مقالته عن التعاون العربي – التركي، المنشورة في مجلة «المستقبل العربي» في عدد كانون الثاني (يناير) من هذا العام من خلال القول: «إننا نتطلع الى تركيا منفتحة على العرب، وليس تركيا العثمانية». ولم تقتصر هذه المعالجة للتاريخ على حدث محدد أو على فترة زمنية معينة، بل بتنا نلاحظ أن القسم الأكبر من الدراسات التاريخية في ساحتنا المشرقية بقيت تهتم بالجانب السياسي على حساب كتابة تاريخ ثقافي أوسع وأكثر جدية من ناحية الأدوات وتعدد المداخل المتداولة. في حين بدى العكس واضحاً في الساحة المغربية والذي كثيراً ما كان ولا يزال يثير هذا الكلام امتعاض العديد من المشارقة، ولا شك أن لهذا الغنى الفكري لدى المغاربة له العديد من الأسباب التاريخية واللغوية والجغرافية، غير أن هذه العوامل يجب أن تجعلنا لا نبخس من الجهد المبذول والرائد والذي بالفعل يعبر عن حالة معرفية عربية غنية ومتشعبة، والذي لم يعد يقتصر على تقديم قراءات جديدة في مجال التراث أو الفقه، بل بات يطلعنا على العديد من الدراسات والرسائل المنشورة التي تتناول الإسلام التاريخي، أو التاريخ المعاصر للمغرب العربي بلغة يغلب عليها طابع الإرادة المعرفية والطرح الجديد، كدراسات المنصف بن عبدالجليل ومحمد الطاهري المنصوري ومحمد سعيد وسلوى العايب وغيرهم من الباحثين الجدد الذين باتوا يحظون باهتمام القراء المشارقة بعد جيل العروي والجابري وجعيط. بينما بقيت ساحتنا المشرقية تحاول أن تغطي هذا العجز من خلال ترجمة العديد من الدراسات التاريخية، وهنا لا بد من أن نشير الى المحاولات الرائدة مثلاً لدار قدموس في سورية في تقديم عدد مهم من الدراسات التاريخية لمجموعة من الباحثين الألمان والفرنسيين والأتراك، أو من خلال اعادة طباعة بعض الكتب التي نشرت قبل أربعين أو خمسين سنة. ولعل أوضح دليل على الحالة المتخبطة والانفصام بين المستجدات النظرية الحديثة في كتابة التاريخ وممارسة الخطاب التاريخي الذي تعيشه الساحة المشرقية، ما تم عقده بين 15-16 من الشهر السابق في دمشق من ندوة أعدها المركز الفرنسي للشرق الأدنى، والتي جاءت تحت عنوان «هل هناك اتجاهات جديدة في كتابة التاريخ العربي؟». كان الملاحظ انقسام الندوة بين تيارين رئيسيين، الأول يمثل تيار الإيديولوجيا التاريخية الذي ما زال متمسكاً بكل آرائه وأفكاره السابقة عن فترات تاريخية معينة من تاريخ المنطقة، ولعل أبرز وجوه هذا التيار المؤرخ العروبي علي محافظة الذي بقي يصر أثناء الحديث عن الإمبراطورية العثمانية على الانغماس في الماضي القومي، من خلال التأكيد مراراً على أن العثمانيين لم يأتوا بأي تغييرات جدية خلال حكمهم للمنطقة، وكذلك كان حال الدكتور جميل النجار أستاذ التاريخ في الجامعة المستنصرية في بغداد، والذي فاجأنا بالقول إن الواقع الطائفي والعرقي الذي يمر به العراق اليوم ما هو الا وليد لسياسة ورغبة دفينة من قبل العثمانيين. ولم تقتصر هذه المقاربة العتيقة للتاريخ على وضع البلدان العربية في زمن الحكم العثماني، فقد بقي هذا التيار يعبر عن آرائه السابقة أثناء تناوله في اليوم الثاني للندوة التاريخ المعاصر للدولة العربية، حيث ألقى الدكتور فواز طرابلسي ورقة تناولت الحديث عن كتابه الذي صدر قبل عامين والمعنون ب «تاريخ لبنان السياسي» وعلى رغم دعوته الى إدخال التاريخ الثقافي في قراءة التاريخ اللبناني، الا أن الملاحظ على الدكتور فواز ومنذ سنوات عديدة أن هذا التاريخ الثقافي لإمارة لبنان من عام 1528-1861 بقي يمثل تاريخ أعيان وفلاحين وتاريخاً مخضباً بالصراع الطبقي. أما التيار الثاني فقد تمثل بمجموعة من الباحثين والمؤرخين الشباب التي لم تقتصر جهودهم على تقديم رؤية جديدة، بل الأهم هي المناهج والمصادر الجديدة التي استخدمها هؤلاء الباحثين، والتي أوضحت بأن التاريخ الجديد لم يعد كافياً لإتمامه الاعتماد على النصوص المكتوبة، بل الحفر في الوثائق والسجلات الشرعية وباستخدام الأدوات والمستجدات الحديثة في حقل الدراسات الإنسانية، ولعل أهم دراستين جادتين في هذا النطاق كانت دراسة الدكتور مهند مبيضين الذي حاول البحث عن مصادر جديدة لكتابة التاريخ العثماني من خلال الفتاوى، حيث أعتبر أن النازلة الفقهية تعبر عن تاريخ في لغتها ونصها ومضمونها، وأننا في المجاميع الفقهية نجد أنفسنا أمام حياة الناس بكل تفاعلاتها ومجالاتها المفتوحة البعيدة كل البعد من هواجس المصادر التقليدية، التي تمارس حياداً غير مطلوب أحياناً أو تواجه الراهن بالصمت والتجاهل. مما يسمح بكتابة تاريخ اجتماعي وثقافي جديد لتاريخ المدن العربية في العهد العثماني. وقد حاول الباحث أن يأخذ فتاوى الشيخ محمد الخليلي كنموذج لهذه القراءة الجديدة فخرج بتاريخ اقتصادي واجتماعي، وحتى تاريخ للطعام من خلال اثارته للأسئلة التي كانت ترد للشيخ الخليل في باب فتاوى الأطعمة والأشربة. أما الدراسة الثانية التي أثارت انتباهنا، والتي عبرت كما أسلفنا عن معرفة مغربية جادة ومتفوقة هي دراسة الدكتورة التونسية ليلى يليلي من خلال مقاربتها الاجتماعية للعلاقة بين تونس والسلطنة العثمانية، وكون الباحثة متخصصة بالبحث الأناسي فقد حاولت أن تستخدم أدوات هذا الحقل في دراسة منظومة الزواج داخل المؤسسة السياسية لولاية تونس والتأثيرات التي تعرضت لها، الا أنه وعلى رغم أهمية مقاربتها الجديدة لم تحظ بأي نقاش جدي، ما وضعنا أمام إشكالية أخرى كانت ملاحظة في الندوة وتتعلق بعدم إثارة النقاش حول المناهج والأدوات التي استخدمها الباحثون، إضافة الى عدم عثورنا على أي ورقة تتحدث عن بعض الميادين العلمية الأخرى كعلم الاجتماع أو الاناسة والتي باتت من الأدوات التي لا يمكن ولا مفر منها لكتابة أي بحث تاريخي رصين. أخيراً فإن ما نود قوله في هذا العرض أن مجتمعنا العربي اليوم يواجه مجتمعاً آخر ينظر الى التاريخ نظرة مخالفة وضاغطة لنظرتنا في عديد من الميادين، ولا نسعى من كلامنا هذا الى القول بعدم الاهتمام بالتاريخ السياسي الذي لم يعد يحظى بمعناه التقليدي بمكانة تذكر في الجامعات الغربية، أو التقليل من مكانة وجهد بعض المؤرخين العرب، وذلك لكوننا ندرك بأن كتابة التاريخ هي عملية تراكمية، وبأننا لا نزال نعيش في ظل شبه دول لم يكتب تاريخها السياسي حتى الآن، وهو في حاجة باعتقادنا الى مقاربة تاريخية واجتماعية أكثر غنى ومعرفة ليوفر حاضنة ثقافية لأي مشروع حقيقي لبناء الدولة العربية، ولعل هذه الرؤية لا تزال غائبة عن وعي معظم التيارات السياسية والفكرية في ساحتنا المشرقية، وهو ما برز بوضوح خلال السنوات الأخيرة منذ احتلال العراق. * كاتب سوري.