يستهلّ حميد دباشي، استاذ الدراسات الإيرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، كتابه عن «الربيع العربي» الصادر عام 2012، أي في أوج مرحلة التفاؤل بالثورات العربية، بعودة إلى كتابات ماركس التي سبقت «ربيع الشعوب» عام 1848، ليلتقط حماسته وعنفوانه وإصراره النبوئي على التغيير ويستقي منها إلهامات ل «الربيع العربي». فبين باريس «العاصمة الجديدة للعالم الجديد» والقاهرة التي رأى فيها دباشي عاصمة أجدّ لعالم أجدّ، فارق بسيط يقاس ببضع صفحات ويربط بينهما خيط تحرري واحد. ففي هذه اللحظة، تماهت الثورة، كفعل تاريخي، مع الثوار، كمجموعات سياسية، لينضغط التاريخ، وتصبح باريس 1848 والقاهرة 2011 لحظة واحدة في أسطورة التحرر. غير أنّ الخط الثوري الذي يربط عاصمتي الثوار يعكّره كتاب صغير، أشار إليه دباشي ليضعه سريعاً جانباً، وهو «18 برومير لويس بونابرت» (1852). ففي لحظات الحماسة التي تلت ميدان التحرير، اكتفى دباشي في مقدمة كتابه بالعودة إلى «البيان الشيوعي» (1848) وما سبقه من كتابات ليلتقط روح الثورة. غير أنّ زمن الحماسة ولى واستُبدِلت تظاهرات ميدان التحرير باعتصامات رابعة العدوية، وصورة وائل غنيم بالمشهد البونابرتي للفريق عبدالفتاح السيسي ونظّارتيه الشمسيتين والتي جاءت محاطة بخطابات عنصرية وارتجاعات فاشية. فبعد توأم 1848-2011 الذي شكّل المقاربة التاريخية الأساسية للثورات العربية، جاء توأم 1852-2013 لتبدأ مرحلة نعي الثورات وإطلاق الأحكام حول مصيرها البائد. في «18 برومير»، يستبدل ماركس تفاؤل «البيان الشيوعي» وحتمية الثورة والتقدّم بمشاهد متقلّبة لطبقات تخطئ وتخاف وتنتحر وتفشل في لعب الدور المناط بها، مستهلاً نصه بسؤال عن كيفية تمكّن «ثلاثة نصابين من أن يأخذوا على حين غرة ويأسروا، من دون مقاومة، أمة يبلغ تعدادها ستة وثلاثين مليون نسمة». والجواب عن هذا السؤال يُدخل إلى السياسة معايير وأفكاراً تخرج من مفردات الثورة. فإذا كان «البيان الشيوعي» ملحمة عظيمة، ف «18 برومير» رقصة موت وفق المفكر الفرنسي كلود لوفور، يكتشف من خلالها ماركس تعقيدات التناقضات الاجتماعية وتداخل مسارات تاريخية مختلفة. ف «لو أن حقبة من التاريخ طليت بلون رمادي على رمادي»، يختتم ماركس، «لكانت هي هذه الحقبة بالضبط». ورمادية المرحلة أخذت شكل طبقات ضائعة وخائفة، تعاكس وصف «البيان الشيوعي» للاعبي الملحمة الثورية. فالبرجوازية التي كانت نذيرة التقدّم، باتت «ترغي وتزبد مبهورة الأنفاس، وتزعق في جمهوريتها البرلمانية: «النهاية برعب ولا رعب بلا نهاية!». أما القوى الديموقراطية، فسقطت ضحية أيديولوجيتها والمبالغة في تقدير قوتها وحقيقة الوضع، مكتفية بترداد ادعاء تمثيلها للشعب، وفق ماركس. وما تبقى من مسلسل الفشل هذا، كانته طبقة الفلاحين الصغار التي لا تستطيع تمثيل نفسها ولا بد من أن يمثلها غيرها. وما يشكو منه مراقبو المرحلة الراهنة هو بالضبط رمادية معالمها. فقد انقسم طرف الثورة على نفسه، وارتدّ بعضهم إلى مقولة القمع في وجه الإسلاميين، وهتف الآخر للعسكر حماية لديموقراطية ما، وتحوّل الرئيس المخلوع إلى «مانديلا العرب»، كما تحول القائد المفوض شعبياً إلى عبدالناصر القرن الحادي والعشرين. والرمادية ذاتها تمتدّ من سورية إلى تونس حيث ولّى وضوح الأيام الأولى أمام تعقيدات السياسة غير الثورية، وخيباتها الحتمية. انتهت الثورات العربية، بوصفها خطاً مستقيماً يمتد من ميدان التحرير إلى نقطة النهاية من دون أي تعرج أو إخفاق. «بكلمات ثانية، انتهت مرحلة البراءة الثورية في العالم العربي»، كما كتب حسام عيتاني، «وحل مكانها «الواقع» كما هو، بتعقيده وذئبية قواه وانحطاط قيمها المحركة» («الحياة» 13-8-2013). يقدّم ماركس صورتين عن الثورة في هذين الكتابين اللذين لا يفصل بينهما إلا بضع سنوات، الأولى تصف خطاً صاعداً، لا تعكّره تفاصيل السياسة. أمّا الصورة الثانية، فعن وضع سياسي يرفض الالتحاق بالتاريخ، ويدور حول نفسه، راكضاً وراء أوهام لا تفسّرها المصالح. غير أنّ العلاقة التي تربط بين الصورتين أعقد من تسلسل زمني أو نضوج فرضه الواقع. فرواية «البيان الشيوعي» تتعاطى مع التعقيدات التي يصفها لاحقاً «18 برومير» كمرحلة لا بدّ منها على طريق الثورة. وهذا ما استنتجه المؤرخ الراحل إريك هوبزباوم في ظاهرة نجاح ثورة 1848 التاريخي على رغم فشلها السياسي. فالتطور التاريخي الذي كانت تلك الثورة إشارة إليه ونتيجة له، لم يتوقف مع فشلها في السنوات التي تلتها، بل يمكن القول إنّ الثوار فشلوا، لكن الثورة نجحت. ويبقى السؤال: إذا قبلنا باستنتاج هوبزباوم، هل يمكن فصل مصير الثورات العربية عن تخبّط ممثليها الثوريين، والبحث في التحولات البنيوية التي أدخلتها إلى العالم العربي عن نجاح ما أو تحوّل ما قد ينقذها من مصير أولئك الممثلين؟ فتاريخ الديموقراطيات الحديثة مليء بمراحل رمادية، سيطر عليها العنف والقتل من غير أن يمنع بروز أنظمة أكثر انفتاحاً أو حرية. غير أنّ هناك هاجساً يبقى، هو أنّ رمادية الوضع الراهن لن تكون مدخلاً لمستقبل أفضل. وبهذا، يمكن قلب الأمور وتخيل رواية «البيان الشيوعي» كمرحلة في رقصة «18 برومير» وهماً من الأوهام الكثيرة التي تشوب السياسة، أي أنّ رواية الثوار عن ذاتهم مغلوطة كفهم الديموقراطيين لموقعهم أو الفلاحين لتمثيلهم أو البرجوازية لمصالحها في رواية ماركس. وهذا التداخل، أي «البيان الشيوعي» ضمن «18 برومير» قد يكون أقرب إلى وضع الثورات العربية اليوم، ما ينذر بلحظة ضمّ روايات الثوار وما كُتِب عن الثورات في بدايتها كجزء من رقصة الموت التي تكلّم عنها لوفور. وفي هذا التسطيح الخطابي، تتحول صورة الثورة عن نفسها وهماً بين أوهام السياسة، فاقدة ضمانتها التاريخية التي سمحت لماركس باستنتاجات «ثورية» على رغم فشل الثورة. وفي كل الأحوال، إن قرأنا نجاحاً في فشل الثورات أو فشلاً في نجاحها، يبقى أنّ الاحتفال أو النعي باتا بحاجة إلى لغة جديدة قادرة على استيعاب ما حصل من دون ضمانات، إيجابية أو سلبية.