اتخذ شهر رمضان في التاريخ الاجتماعي المصري سمة خاصة جعلت شكل أيامه ولياليه يختلف عنها في أي بلد آخر، إذ تحول من مناسبة دينية خالصة إلى مناسبة دينية -اجتماعية مصرية تشكلت ملامحها عبر عصور تاريخ مصر الإسلامية. ولسنا نعرف على وجه اليقين متى وكيف، تحولت مناسبة شهر رمضان إلى مناسبة دينية-اجتماعية. لكن الذي نعرفه بدرجة معقولة من اليقين هو أن شهر رمضان كان مخصصاً للصوم والعبادة، وأن أمسياته ولياليه بعد الإفطار وحتى انتهاء السحور كانت للعبادة والمرح والسرور والولائم التي ميزها البذخ على الدوام. ولا تمدنا المصادر التاريخية المتاحة بصورة كاملة عن تطور احتفالات شهر رمضان على امتداد التاريخ الاجتماعي المصري، وإنما نجد أمامنا لقطات وصوراً تاريخية رسمها المستشرقون بأقلامهم وريشاتهم نحاول جمع شتاتها. شهد الرحالة الفرنسي جان باليرن الذي زار مصر عام 1581م ليالي رمضان في القاهرة ووصف بهجة الناس بهذا الشهر بقوله: «يحرص المصريون في رمضان على توزيع اللحوم والصدقات على الفقراء ويتبادلون الزيارات والسهرات، ويقومون بإنارة فوانيس كبيرة ملونة أمام المنازل والحوانيت وفي المساجد». وحرص بعض هؤلاء الرحالة على استئجار غرفة في شارع رئيس؛ ليتمكن من متابعة الاحتفالات بهذا الشهر. ووصف الفرنسي فيلامون عام 1589م بعض مظاهر الاحتفالات بهذا الشهر، مواكب دراويش الصوفية وحلقات الذكر، والمساجد المضاءة وزحام الأسواق، ومآدب الإفطار التي يُدعى إليها الأصدقاء، ويصف المصريين بالكرم، «ولديهم عادة جميلة، إذ يجلسون على الأرض ويأكلون في فناء مكشوف أو أمام بيوتهم، ويدعون المارة إلى الطعام في صدق وحرارة». أما المستشرق الإنكليزي الشهير إدوارد لين، الذي شغف بمصر واختلط بناسها، وتأثر بعادات وتقاليد المجتمع القاهري، حتى أنه شارك المسلمين صلاتهم في المساجد، كما شاركهم في حلقات الذكر، راصداً تفاصيل الحياة اليومية، وسمى نفسه منصور أفندي، فيقول عن طقوس ليلة رؤية هلال رمضان عام 1835م: «والليلة التي يتوقع أن يبدأ صبيحتها الصيام، تسمى ليلة الرؤية، فيُرسَل عدد من الأشخاص الثقاة إلى مسافة أميال عدة في الصحراء، حيث يصفو الجو؛ لكي يروا هلال رمضان، بينما يبدأ من القلعة موكب الرؤية الذي يضم المحتسب وشيوخ التجار وأرباب الحرف: الطحانين، والخبازين، والجزارين، والزياتين، والفكهانية، وتحيط بهم فرق الإنشاد ودراويش الصوفية، وتتقدم الموكب فرقة الجنود. ويمضى الموكب حتى ساحة بيت القاضي ويمكثون في انتظار من ذهبوا لرؤية الهلال. وعندما يصل نبأ ثبوت رؤية هلال رمضان يتبادل الجميع التهاني، ثم يمضي المحتسب وجماعته إلى القلعة، بينما يتفرق الجنود إلى مجموعات يحيط بهم «المشاعلية» والدراويش يطوفون بأحياء المدينة وهم يصيحون: «يا أمة الأنام. صيام. صيام»، أما إذا لم تثبت الرؤية في تلك الليلة، فيكون النداء: غداً متمم لشهر شعبان، فطار... فطار». وأشار لين إلى صمت الشوارع وتراخي حركة الحياة نهاراً، وقبيل المغرب توضع مائدة الإفطار طوال شهر رمضان في غرفة الاستقبال، حيث يستقبل رب الدار ضيوفه، وتعد صينية فضية كبيرة تزدان بأطباق المكسرات والزبيب والحلوى وأواني الشربات والماء، وفي الحسبان دائماً الضيوف الذين قد يهبطون بغتة، وتجهز أدوات «الشوبك» للتدخين. وبعد أذان المغرب، يتناول رب الدار مع أسرته وضيوفه أكواباً من شراب الورد أو البرتقال، ثم يؤدون صلاة المغرب وبعدها يتناولون شيئاً من المكسرات ويدخنون. وبعد تناول شراب منعش، يجلسون لتناول إفطارهم، غالباً من اللحوم وأطايب الطعام، ثم يؤدون صلاة العشاء وتعقبها صلاة التراويح التي تؤدى جماعة في المسجد، ثم يتدفق الناس إلى الشوارع، ويتحول الليل إلى نهار، ويرتاد العامة المقاهي ليستمعوا إلى المنشدين ورواة السيرة الشعبية، ويعقد دراويش الصوفية حلقات الذكر وختمة القرآن في منازل شيوخهم كل ليلة. ويدور «المسحراتي» في كل ليلة، ولكل منطقة مسحراتي خاص بها، يطلق المدائح لأرباب المنازل، ممسكاً بيده اليسرى «بازاً» صغيراً، وبيده اليمنى عصا أو قطعة من الجلد يضرب بها عند كل وقفة ثلاث مرات، يرافقه صبي يحمل فانوسين، موحداً الله ومصلياً على الرسول صلى الله عليه وسلم اصح يا غفلان، وحد الرحمن، أسعد الله لياليك يا «فلان»، داعياً بالتقبل والحفظ لأهل الدار، ولا يذكر أسماء البنات، وإنما يقول: «أسعد الله لياليك يا ست العرايس». ويشير إدوارد لين إلى أن «المسحراتي» كان أحياناً ينشد من قصص المعجزات الدينية كقصة الإسراء والمعراج، ويلتزم الصمت عندما يمر ببيت في حال حزن لوفاة عزيز. ومن طريف ما رواه إدوارد لين أن نساء الطبقة المتوسطة كن يضعن قطعة نقود معدنية داخل ورقة ملفوفة ويشعلن طرفها ثم يلقين بها من المشربية إلى «المسحراتي» حتى يرى موضعها فينشد لهن بعضاً من المدائح النبوية أو حكايات المعارك بين الضرائر. وأشار كذلك إلى دعاء «الأبرار» من فوق المآذن عقب صلاة العشاء، والذي يشمل الآية القرآنية «إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً»، والدعاء الثاني كان نحو منتصف الليل ويسمى «السلام»، عبارة عن مجموعة أدعية وثناء وصلوات على رسولنا الكريم. وتحدث إدوارد لين عن العشر الأواخر من رمضان، وقال إن غالبية المؤمنين يفضلون قضاءها في جامع المشهد الحسيني وجامع السيدة زينب، وأضاف: «إحدى هذه الليالي وهي الليلة السابعة والعشرون تعرف بليلة القدر، وهي الليلة التي نزل فيها القرآن على محمد وهي خير من ألف شهر ويعتقد المسلمون أن أبواب السماء تكون مفتوحة في هذه الليلة، فيستجاب فيها الدعاء». ومن غريب ما رواه ذلك الاعتقاد بأن الماء المالح يتحول إلى ماء حلو سائغ شرابه في هذه الليلة المباركة: «فيجلس الأتقياء في هذه الليلة بخشوع كبير وأمامهم إناء فيه ماء مالح، وبين حين وآخر يتذوقون طعمه ليروا إن أصبح حلو المذاق فيتأكدون أن هذه الليلة هي ليلة القدر». أما القنصل الأميركي في مصر من الفترة 1876 - 1881م ألبرت فارمان فقد رصد في يومياته الحياة السياسية والاجتماعية في مصر في نهاية عصر إسماعيل وبداية عهد محمد توفيق، وعن انطباعاته التي سجلها عن شهر رمضان ومظاهر الاحتفال به، يقول: «شهر رمضان يبدأ فيه سفر الحجاج، حيث يعدون أنفسهم للقيام بهذا الواجب المقدس، وهو الشهر الذي نزل فيه الوحي على إبراهيم، وبعث فيه بالتوراة إلى موسى وبالإنجيل إلى عيسى، وأنزل فيه القرآن على محمد، وفيه تفتح أبواب السماء للتائبين، ولإثبات أول يوم في رمضان، يجب رؤية الهلال عملياً، فيخرج الرجال إلى التلال العالية خلف القلعة، وبمجرد أن تثبت لهم رؤية الهلال يعودون بالبشرى، ولا بد من إثبات ذلك كتابة، وصدور إعلان من أصحاب المقامات الرفيعة المجتمعين في بيت القاضي، وتنطلق المدافع من القلعة، وتسير المواكب الرسمية والشعبية المبتهجة في أرجاء العاصمة معلنة بدء صيام رمضان. وفي رمضان تؤجل الأعمال الشاقة، والمطاعم والمقاهي في ذروة رواجها، وتزدان الشوارع والبيوت والمساجد بالأنوار، وتمضي الثلاثون يوماً ثم يعلن مدفع القلعة انتهاء الصيام. وفي صباح اليوم التالي، الموافق أول شهر شوال، يبدأ العيد الصغير، ثلاثة أيام هي موسم للزيارات والمقابلات والاحتفالات، وارتداء الملابس الجديدة، وتقديم الهدايا إلى الأطفال والخدم والفقراء، وتبادل صواني الكعك بالسكر». * كاتب مصري