راهن تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام» «داعش» عندما وسع اعتداءاته على الجيش اللبناني في شمال لبنان انتقاماً لاعتقال مشغله الأساسي في لبنان أحمد سليم ميقاتي في بلدة عاصون، على إمكان السيطرة كلياً على طرابلس والتمدد منها في اتجاه منطقتي عكار والضنية - المنية على غرار سيطرته في السابق على منطقة الموصل في العراق، لكنه سرعان ما اكتشف أن رهانه ليس في محله وأن طرابلس ليست الموصل أو الرقة في سورية، وبالتالي أوقع نفسه في حسابات خاطئة ولم يجد أمامه سوى طلب النجدة من «جبهة النصرة» الموجودة في منطقة باب التبانة في عاصمة الشمال بذريعة ان القضاء عليه سيمهد الطريق أمام التخلص منها. أما لماذا أخطأ «داعش» في حساباته واكتشف ان طرابلس ليست الموصل ولن تتحول مدينة عاصية على الدولة و «حاضنة» للمجموعات الإرهابية المسلحة وأن دعوات بعض «المشايخ» الى مناصريه والدفاع عنه ارتدت على أصحابها ولم يكن أمامهم سوى الفرار؟ يجيب عن هذا السؤال عدد من فاعليات طرابلس السياسية ومعهم فاعليات عكار والضنية والمنية بقولهم ل «الحياة» إن «داعش» أخطأ في العنوان منذ اللحظة الأولى عندما ظن ان عاصمة الشمال ستكون حاضنة له وأن الاحتقان بين السنّة والشيعة يسمح له بانضمام مجموعات من السنّة اليه بذريعة انه يقاتل الشيعة وأنه الأقدر على تحقيق حد أدنى من التوازن في المواجهة بينهما. ويضيف هؤلاء أن «داعش» لم يحسن قراءة الوضع في الشمال عموماً وفي طرابلس على وجه الخصوص عندما اعتقد أنه يمكنه توظيف الاحتقان في تأليب السنّة على مشروع الدولة وتوظيف شكواهم من «الخلل» ليتخذ من طرابلس «إمارة» له ومنها يستطيع السيطرة على مناطق عدة في الشمال. ويؤكدون ان «داعش» اختار الأسواق القديمة في طرابلس ليتخذ منها منصة عسكرية للاعتداء على وحدات الجيش المنتشرة فيها وكان يظن أن إطلاقه الطلقة الأولى سيؤدي الى إحداث انتفاضات «شعبية» تتوالى الواحدة تلو الأخرى في تأييدها له على أن يتبعها حصول حالات تمرد في صفوف الجيش معتمداً على أصوات بعض من يؤيده. ويتابعون ان الانتشار العسكري ل «داعش» في الأسواق القديمة قوبل برفض من المقيمين فيها الذين امتنعوا عن التضامن معه وقالوا بصوت واحد: «لن يكون لهذا التنظيم مكان في هذه الأسواق»... ويؤكدون ان وحدات الجيش لقيت احتضاناً شعبياً مدعوماً بغطاء سياسي واسع من المدينة بكل مكوناتها وأطيافها السياسية، وهذا ما قطع عليه الطريق على التمدد الى أحياء وشوارع أخرى. ويؤكدون أن «داعش» لجأ، بالتزامن مع تمركزه في الأسواق القديمة، الى الانتشار على الأوتوستراد الذي يربط المنية بعكار وبادر الى قطع الطريق ومنع المواطنين من العبور بالاتجاهين، وكان يراهن على أن أهل الريف سينتفضون على الجيش اللبناني وينزلون بأعداد كبيرة في عدد من البلدات والقرى تأييداً له وأن هذه الانتفاضات ستدفع بسكان طرابلس الى تغيير موقفهم والاندفاع بموجات بشرية داعمة له. لكن وحدات الجيش - كما يقول هؤلاء - نجحت في إعادة السيطرة على الوضع وقامت بملاحقة فلول «داعش» وعلى رأسهم الشيخ خالد حبلص وهو من عكار ويقيم في المنية وينصّب نفسه إماماً على أحد المساجد في طرابلس من دون أن تعترف به دار الفتوى. إضافة الى ان دعوات حبلص - الذي له دور في تجنيد بعض الشبان للانتقال من مرفأ طرابلس الى تركيا ومنها الى الرقة للقتال الى جانب داعش - لعناصر الجيش الى التمرد سرعان ما انقلبت عليه بعدما أظهرت هذه الوحدات تماسكاً قطع الطريق على «داعش» الذي راهن على القدرة على إحداث ثغرة في المؤسسة العسكرية يمكنه استغلالها لتمرير مشروعه في تحويل طرابلس الى إمارة «داعشية». ويؤكدون ان «داعش» وجد نفسه معزولاً لأن أهل الشمال شكّلوا درعاً منيعة دعماً للجيش وبادروا الى تقديم المساعدة له، خصوصاً ان قيادة الجيش اتخذت قرارها بالقضاء على المجموعات الإرهابية المسلحة مهما كلف الأمر... لأن العودة عن المواجهة إفساحاً في المجال أمام التوصل الى «تسوية» تعني ان هيبة الدولة ضُربت وستسمح للمجموعات الإرهابية المسلحة بأن تلتقط أنفاسها استعداداً لخوض جولة جديدة من المواجهة مع الدولة عبر النيل من معنويات المؤسسة العسكرية والقوى الأمنية المساندة لها. ويعتبر هؤلاء ان تماسك طرابلس بجميع قواها السياسية وفعالياتها الروحية والاقتصادية أدى الى حشر «داعش» في الزاوية، لأن التنظيم افتقد أي صوت سياسي يمكنه التناغم معه أو التحرك لوقف إطلاق النار. ويؤكدون ان الدعم الشعبي للجيش في المناطق الأخرى أشعر «داعش» ولاحقاً «النصرة» بأن مشروعهما في السيطرة على مناطق واسعة من الشمال ذات الغالبية السنّية بدأ يتراجع وصولاً الى ضربه وبالتالي إنهاء مثل هذه الحالة الشاذة الغريبة عن أهل السنّة. كما يعتقد هؤلاء أن خطة «داعش» كانت تقوم على تقطيع أوصال طرابلس وتحويل شوارعها الى «جزر أمنية» تدفع بالشبان المتحمسين الى النزول إلى الأرض لدعمه لتأخذ المواجهة مع الجيش أشكالاً أخرى بدخول عناصر أخرى تشاركها في القتال، لكن لغة العقل تغلبت في النهاية على العاطفة. وتبين ان المبالغة في الكلام عن وجود خلايا نائمة في أكثر من منطقة ستنتفض في الوقت المناسب لنصرته لم تكن في محلها، ما دفع بمجموعاته الى الفرار ليلاً، لا سيما في منطقة المنية. لكن القوى السياسية في طرابلس توقفت أمام القرار الذي اتخذته «النصرة» فجر أمس لجهة دخولها على خط المواجهة مع وحدات الجيش في باب التبانة بعدما نجحت المساعي التي تولتها «هيئة العلماء المسلمين» في الساعات الأولى من بدء المعارك في أسواق طرابلس في تحييد هذه المناطق. مع ان هذا الدخول جاء متأخراً وفي أعقاب تمكن وحدات الجيش من استعادة سيطرتها على الأسواق وفرار المسلحين ليلاً في اتجاه بحنين في قضاء المنية لمساندة المجموعة التابعة للشيخ حبلص، إضافة الى آخرين تمكنوا من التسلل الى باب التبانة. وعلمت «الحياة»، في هذا السياق، أن لجوء مجموعة تابعة ل «النصرة» وأخرى لتنظيم «القاعدة» في باب التبانة الى فتح معركة ضد الجيش اتخذ بقرار مركزي من جانب قيادتي «النصرة» و «داعش» الموجودتين بين جرود عرسال ومناطق في القلمون في سورية. وعزت مصادر طرابلسية قرار «النصرة» فتح النار على الجيش في «باب التبانة» الى ان قيادتها اضطرت الى مراجعة موقفها باتجاه الخروج عن حيادها بذريعة ان انهاء الحال الشاذة المتمثلة ب «داعش» على يد الجيش سيدفع بالأخير الى التفرغ لمواجهة «النصرة» التي أكدت من خلال مشاركتها في المواجهة ان لا صحة لكل ما يشاع من انها على تباين مع «داعش». وأكدت المصادر ان ارتفاع منسوب الالتفاف الشعبي حول الجيش أسقط النظرية التي كانت تقول ان مناطق عدة في الشمال تحولت حاضنة ل «النصرة» و «داعش» وأن الخلايا النائمة الداعمة لهما ستخرج من أوكارها في الوقت المناسب لتلتحق بهما، وقالت ان أبناء الشمال من أهل السنّة أظهروا أنهم بيئة حاضنة للجيش، لا سيما بعدما شاهدوا بأم العين ان معظم المنتمين الى المجموعات الإرهابية هم من خارج المنطقة وجلّهم من النازحين السوريين على رغم ان هناك صعوبة في التمييز بين المسلحين لأنهم ملثمون. لذلك، يمكن القول، كما تقول هذه المصادر، ان المجموعات المسلحة فقدت المبادرة بعدما خسرت جولة على يد الجيش لن يكون في وسعها تعويضها في أي مكان في الشمال وستضطر الى الانكفاء وأن من فر منها لن يجد من يؤويه هرباً من ملاحقته، لا سيما ان المزاج الشعبي سيلفظ هذه المجموعات ويرفض ان يوفر الحماية لها.