في أول حوار أدبي أجرته «الحياة» مع الكاتب الصحافي الزميل علي القاسمي، بعد إصداره كتاب نصوصه النثرية «فوضاي» لا يبدو أنه يترفع عن كونه «كاتب خاطرة»، ولكنه في الوقت نفسه يختار قاموسه الخاص به، قاموساً عن «الصديق الحقيقي الصفر». وعن «القبلات التي يمتلئ بها رجل الجبل لما أصابه حرمان الصحراء»، وعن القلب الفوضوي الذي «كان يقود ولا يقول، والآن صار يقود ويقول». القاسمي الذي أصدر كتابه عن دار لبنانية أبدى مخاوفه من محاولة فسح الكتب الأدبية محلياً، واصفاً «إجراءات الفسح» بأنها «لم تعد كما كانت في زمن يوسف اليوسف، فإلى الحوار. لماذا اقتحمت عالم الأدب والإبداع؟ - لا يمكن أن أعُدَّ ذلك اقتحاماً قدر ما هي معاكسة بريئة لهذا العالم، ومشاغبة خجولة، وإن صح التعبير أحسبه تنفساً مباحاً وسط مساحات تخنقنا وتخيفنا فلا نجد بداً من المضي نحو يباب الكتابة وتناول الأوكسجين الذي تقدمه لنا حين نتقاطع معها في المفردة الشهية اللذيذة «بوح». ألم يصبح غريباً في الوقت الحالي أن يكون الكاتب الصحافي أديباً؟ - أقف في منطقة متوسطة، فلا أميل بالكلية لاعتبار تحول الكاتب الصحافي إلى ميدان الأدب شيئاً غريباً، كما أن شعوراً مشاكساً يعبر بي إلى الاقتناع الموقت بأن ذلك يعتبر غريباً إذا ما اعتبرت أن الكتابة الصحافية والأدب عالمان بقواعد وإمكانات وقدرات وحضور متوازن ومعتدل وممتلئ. مرة أخرى: تقتحم عالم الكتابة الإبداعية بكتاب «فوضاي» ألا تخشى أن تعد دخيلاً على عالم لم تكن تشارك فيه بنصوص؟ وأن ينسب عملك إلى الخواطر الشخصية؟ - لا أزال مصراً على أنني لا أعد ذلك اقتحاماً، وليحسبوني دخيلاً على عالم الأدب، أو أن ينسب عملي الخفيف الخجول للخواطر الشخصية، هذا العالم متاح ولا ضوابط أو اشتراطات على الأقل في المشهد المحلي تقف حارسة على بوابة هذا العالم تدقق في وجوه الراغبين في الولوج له أو معاكسته، وليس ثمة من عمل نقدي يهدف بالمقام الأول للتقويم لا التقويض، مجتمعنا انطباعي وعاطفي ويميل فطرياً لهذين الشيئين في كثير من قراءاته النقدية للمنتج الأدبي أو غيره، العمل الشخصي «فوضاي» لا أزعم أنه ذو جاذبية فارقة أو أفضليته على ما يشابهه ويقترب منه في المحتوى، لكنه قطعاً ليس الأسوأ، وأنا أستلذ بالنقد والرأي المضاد أو المعارض، لقدرتي التامة على التفريق بين الناقد الحقيقي وذاك الذي يرتدي عباءة «الناقد» لكنه يستبدل النون الجادة بالحاء الحادة. سواء أقررت أم نفيت كونك ميالاً إلى كتابة النص الخاطرة، ألا ترى أن المشهد الكتابي تجاوز هذا الجنس؟ خصوصاً أنه يقدم رؤى ومشاعر أكثر مما يقدم فكراً؟ - لا أنفي على الإطلاق ميلي لكتابة نص الخاطرة، يكفي أنك قلت «كتابة»، وأقول: «أنا أكتب... إذاً أنا موجود»، مع حفظ الحقوق للفيلسوف ديكارت، والفيلسوف كارل ماركس، والشاعر بايرون والأديب كافكا حين عبّر كل منهم عن وجوده بكلمة مختلفة، وأعترف بأن المشهد الكتابي تجاوز هذا الجنس الكتابي، لكننا لا نستطيع تجاوز الحس الجمالي أو الإبداعي فيه إن كنا متذوقين حقيقيين للكلمة، نص الخاطرة على الغالب يميل للرؤى والمشاعر، ولا ينتظر منه أن يخلص للأفكار وحدها على رغم أن الرؤى والمشاعر تعبرها أفكار لذيذة، لكن هناك أجناس كتابية تُعنى بتقديم الفكر على حساب الرؤى والمشاعر، ولعل المقالة أحد هذه الأجناس، وأحاول فيها تقديم الأفكار أكثر، وألا أزج بالمشاعر إلا حين تستدعي الحاجة الإنسانية. هل يمكن أن يقال إن «فوضاك» المرتبة، استنسخت نفسها من تغريدات كاتبها «التويترية»؟ - لا يمكن الجزم بذلك، جزء كبير من المحتوى الكتابي بين يدي قبل حضوري «التويتري»، تغريدات «تويتر» امتداد لفوضاي المرتبة، واستكمال لها، ويظل «ع.ل.ي» الموجود بالداخل هو ذاته في فوضاه المرتبة أو تغريداته «التويترية». تحب الوحدة، كما تصرح بذلك في نصوصك الأخيرة، فهل أنت كاتب متوحد؟ - سآخذ التوحد من زاويتين، الأولى أنني أنفرد بنفسي وفي هذا الانفراد لذة ومراجعة دقيقة وصامتة للذات، الوحدة هنا وسيلة للتغير والتطور، وحاجة تتطلبها مجريات الحياة، وفي الأول والأخير أنا أحب أن أكتب ما أمكن ذلك - وحيداً -، أما الزاوية الأخرى وهي أن التوحد مقاطعة الناس والمجتمع للتنسك والتعبد فلا أدعي فعل ذلك وإن كانت غاية، لكن الانقطاع عن الناس والمجتمع منهك ويحتاج عزيمة لا أظنها لديَّ على الأقل في الفترة الحالية. الوحدة لا تعني عندك المرض ولا النقص ولا الانعزال، فماذا إذاً؟ - هي عالمي الذي أرفض أن يطرق بابه أحد، والمكان المحبب لأن أخلو فيه ب«ع.ل.ي» الذي أعرفه جيداً. كان قلبك فوضوياً، هكذا تقول، والآن لم يعد؟ هلا وصفت هذا القلب حال الفوضى وبعدها؟ - فوضى القلب كانت منحصرة في أنه كان «يقود ولا يقول»، الآن أصبح يقود ويقول، وفي ذلك انضباط عاطفي وروحي واتزان، لأن القيادة القلبية العمياء تحتاج إلى «قول» يرى! وهذا هو الوصف الممتلئ والملتوي في توقيت واحد. في أحد نصوصك تصف طابور انتظار أمام غرفة نوم، حقاً، أم هو طابور في داخلها؟ وإلام يوحي ذلك؟ - لا أعتقد أنني وصفت ذلك، فلا أظن طابوراً يستحق الانتظار والمنتهى غرفة نوم، النوم لا يحتاج طابوراً، وغرفة نوم يقف أمامها طابور هي باردة ورديئة! وإنما كان الحديث عن كتابة مرة في طابور انتظار، ومرة في غرفة نوم، فالحديث عن أمكنة متعددة للكتابة، ولا عن مكان يؤدي إلى مكان. في نصك «تمرين» هل تقر بأنك فعلاً ترى الحب «تمريناً»؟ - لحظة كتابة النص قد تكون «تمريناً» لأني لست معنياً مباشراً بكل نص أكتبه، إنما يستحيل أن يكون الحب «تمريناً»، فهذا عبث بأجمل الكلمات، وتدنيس لها، الحب. تعيش في مدينة رائحتها المطر، لكنك تنتقد غالباً في مقالاتك أحوال وحوادث مدن الغبار، كيف يكون مزاجك إذ تكتب عن الغبار وأنت في قلب المطر؟ - الكتابة تحت تأثير اللحظة تختلف عن الكتابة تحت تأثير المطر، مدينتي التي أكتب منها وتصفها بقلب المطر باتت مدينة من مدن الغبار، صحيح أنني أكتب من مدينة كان المطر لا يفارقها، لكن الغبار بدأ يغازلها بين وقت وآخر، لذا إن انتقدت الغبار فلأنه استثناء، إذ إن أرواحنا قلبها المطر، وما دمت أكتب من قلب المطر فلا تخف على مزاجي. فوضاك ملأى بالقبلات، ترى: هل هو حرمان الصحراء أصاب رجل الجبل؟ أم هو امتلاء الضلوع وصل إلى حد الفيض؟ - بل هو حرمان الصحراء أصاب رجل الجبل، لو امتلأت الضلوع إلى حد الفيض لاكتفيت بفيض القبلات وقلبت الفوضى إلى نظام صارم تقوده «قُبْلة». حدثنا عن معادلة «الصفر» الصديق، كيف استطاع الصديق أن يكون حقيقياً، و«صفراً» أيضاً؟ - هو حقيقي قطعاً بالنسبة إليّ كواحد، ويصبح ذا قيمة حقيقية مضاعفة، حين يتربع صفراً، على يميني. أخيراً: لماذا طبعت «فوضاي» في «بيسان» عوضاً عن النشر في دار محلية؟ - لا دار محلية تراهن على الشباب وتقدمهم، قد تحترم المنتج ولكن بشفاعة وتقديم «زبون صديق» دائم لها، لا تتحمس كثيراً للمنتج الثقافي إن لم يكن سلعة تجارية مدرة للمال، يجب أن يكون التركيز محلياً ذاهباً لدعم الشباب ومكتوبهم قبل الجيوب، فضلاً عن أن «إجراءات الفسوحات» لم تعد تلك التي كانت على عهد يوسف اليوسف، فذاك عهد ولّى ومضى.