الأسلحة التي بدأت تصل إلى «الجيش الحر» ستغير الوضع على الأرض. هذا ما قاله رئيس أركان هذا الجيش اللواء سليم ادريس الذي مهّد لاجتماع مجموعة «أصدقاء سورية» في الدوحة قبل يومين باجتماع ضم إليه، للمرة الأولى، تنظيمات إسلامية تنشط شمال البلاد وشمال غربيها. وهذا ما يعطيه سنداً يشكل مزيداً من الضمانات التي يطلبها «الأصدقاء» ليكون للسلاح عنوان واحد على الأقل. الأميركيون والأوروبيون دفعوا بضغوطهم «الائتلاف الوطني» للمعارضة إلى توسيع صفوفه قبل أسابيع. وهم اليوم في طريق دفع التنظيمات المقاتلة إلى مزيد من التنسيق على الأرض، الأمر الذي يسهل توريد المعدّات المطلوبة. لن يحقق هذا التطور في موقف واشنطن وشركائها في أوروبا والمنطقة الحسم على الأرض. هدفهم تحقيق التوازن بعد اهتزازه إثر معركة القصير وتوجه الأنظار نحو حلب ودمشق وغيرهما من المواقع والمدن. يعني قرار التسليح هذا أن «الأصدقاء» الذين اجتمعوا في العاصمة القطرية لن يسمحوا بأن يكون مصير حلب ومناطق أخرى مشابهاً لما حلّ في القصير. هذه المرة لن تلحق الهزيمة بالمقاتلين بقدر ما ستلحق باللاعبين الإقليميين والدوليين الذين يخوضون هم أيضاً حروبهم الخاصة بالواسطة وسط هذه المعمعة السورية في مواجهة روسياوإيران. وقيادتا هذين البلدين لن تترددا في مدّ النظام بمزيد من أسباب القوة ورفع وتيرة التحدي. دخل الجميع عملياً في سباق تسلح ستحدد آفاقه وحدوده طبيعة المعارك على الأرض ومفاجآتها. فالحرب لا تخضع لحسابات دقيقة وتوقعات كما هي حال أي عملية سياسية أو ديبلوماسية. فضلاً عن أن القوى الداخلية المنخرطة في الميدان لها الكلمة الأخيرة في رسم مصير هذه الحرب وحدود استثمارها سياسياً. يكاد دور القوى الخارجية أن يقتصر على توفير الذخيرة والدعم السياسي. لذلك تأخذ موسكو على الأميركيين والأوروبيين عجزهم حتى الآن عن دفع المعارضة إلى طاولة التفاوض. ويأخذ هؤلاء عليها في المقابل عجزها عن إقناع النظام بوقف القتال والتوجه نحو حل سياسي ما دامت لم تفلح دعواتها إياه في مناسبات عدة سابقة إلى إجراء عملية إصلاح جدية. من هنا سيظل مصير مؤتمر «جنيف – 2» رهناً بميزان القوى الذي سينشأ على الأرض. لذلك يستبعد عقده قبل آب (اغسطس) المقبل. بل ربما استغرق الأمر أبعد من هذا التاريخ. ميزان القوى لا يخص المتصارعين السوريين وحدهم. فالحرب لا يشكل عنوانها النظام من جهة والثوار من جهة أخرى. هناك قوى مذهبية تتواجه على الأرض في إطار صراع مذهبي يجتاح الإقليم كله يتمثل بإيران وحلفائها من جهة، وصفٍّ طويل من الدول العربية من جهة أخرى. وهناك المواجهة بين واشنطنوموسكو التي لا يروق لها تسليح «الجيش الحر» فقط، بل نشر درع «باتريوت» في الأردن بعد تركيا. لذلك قد لا يتوقف تدفق السلاح إلى سورية. شحنات السلاح والرجال ستتواصل من روسياوإيران اللتين تدخلتا باكراً دعماً للنظام في دمشق. أما الولاياتالمتحدة وشركاؤها الأوروبيون والعرب فسيجدون أن تسليح المعارضة سيجرّهم إلى مزيد من التدخل المتدرّج، مما يعني بوضوح أن الأزمة ستطول قبل أن تنضج التسوية المأمولة. ويُخشى أن تكون الأوضاع على الأرض قد تجاوزت الصيغ المتداولة أساساً لتسوية سياسية داخلية. لم تعد الأزمة تقتصر على سورية وحدها. أسقطت التدخلات الخارجية الحدود الجغرافية التي رسمها «اتفاق سايكس – بيكو» قبل نحو قرن لما كان يسمى «سورية الكبرى»، أو «درّة التاج العثماني» كما كان يسميها أهل السلطنة قبل اقتسام تركتها غداة الحرب الأولى. باتت الحدود مشرّعة من دون أي اعتبار لسيادة الدول القائمة. ونظرة إلى الدول المتاخمة لسورية تظهر أن المفهوم الأمني والسيادي للاتفاق الفرنسي – البريطاني سقط سقوطاً شبه نهائي... من الأردن إلى العراق ومن جنوب تركيا إلى لبنان. فحركة المقاتلين واللاجئين وتجار السلاح والمهربين في الاتجاهين لا رقيب عليها ولا حسيب في أحسن الأحوال أو لا قدرة على ضبطها تماماً. ولن تكون «درع الباتريوت» التي أقامها حلف «الناتو» في تركيا أو تلك التي أقامها الأميركيون في الأردن قادرة على إعادة فرض احترام الحدود. بل قد لا تكون أي تسوية مأمولة قادرة على إعادة ترسيخها. تأخر المجتمع الدولي في التدخل الحاسم لحل الأزمة. الخوف من تفكك سورية الدولة وسقوطها بأيدي حركات التطرف الذي رافق الموقف المتردد لواشنطن وحذرت منه موسكو أيضاً، حلت مكانه مخاوف أخطر وأدهى على الإقليم برمته. قبل أربعة عقود، زج الرئيس حافظ الأسد بقواته في لبنان، أولاً خوفاً من انتقال نار الحرب الأهلية إلى سورية. وثانياً اقتناصاً لفرصة قد لا تتكرر من أجل إعادة هذا «الإقليم الشقيق» إلى حضن «الدولة الكبرى» التي سُلخ منها إثر اتفاق «سايكس – بيكو». ولم يكن العراق ولا الأردن بعيدين مما جرى في لبنان طوال 15 عاماً. بل إن دول الخليج التي انخرطت بطريقة أو بأخرى في الحرب، كان لها دور أو أدوار فيها. ثم كانت حاضرة في كل المساعي بحثاً عن تسوية انتهت في اتفاق الطائف. المسألة اليوم أكبر وأخطر. الحريق هنا يشتعل في قلب المنطقة وليس في أحد أطرافها التي سرعان ما اشتعلت دونما حاجة إلى تحذيرات أو توقعات وتكهنات. في سورية التزم كردها منذ بداية الحراك موقف المراقب والمنتظر. فكلما تعمقت الفوضى والتفكك في أوصال الدولة ستعزز فرصتهم ليحذوا حذو أشقائهم في كردستان العراق. وهم أساساً يتلقون النصح والمشورة منهم. ولا حاجة إلى الحديث عن منطقة الساحل السوري و «الخطة البديلة» التي قد يلجأ إليها النظام إذا نجح خصومه في إخراجه من دمشق. ولا حاجة إلى الحديث عن امتداد هذه المنطقة ومشروع وصلها بالبقاع فالجنوب اللبنانيين. ولا حاجة أيضاً وأيضاً إلى الحديث عما يدور في المحافظات العراقية السنية في مواجهة حكومة بغداد... وما تعانيه تركيا في إقليمها الجنوبي حيث يتحرك علويّوها رفضاً لفتحها الحدود أمام اللاجئين وحركات المعارضة السياسية والعسكرية. وبعيداً من هذه الحدود المباشرة يقوم اصطفاف مذهبي في الإقليم من اليمن وحوثييه إلى البحرين فالتجمعات الشيعية في الخليج التي ترى إليها إيران مواقع للمواجهة مع دول الخليج، كلما رفعت هذه وتيرة انخراطها في الأزمة السورية. تجاوزت المسألة خوف الرئيس باراك أوباما من «جبهة النصرة»... إلا إذا كانت هذه أكثر خطورة وتشدداً من «طالبان» التي يستعد لمحاورتها في الدوحة قريباً! وتجاوزت خوف الرئيس فلاديمير بوتين من الفراغ إذا رحل الرئيس الأسد. ثمة خطوط تماس ترتسم داخل دول الجوار كلها. دوائر دولية تحذر من أن اللاجئين السوريين إلى الأردن باتوا يشكلون خمس سكانه، وهم يشكلون تهديداً مباشراً لأمنه الاجتماعي والاقتصادي. ولكن ماذا تقول هذه الدوائر عن لبنان حيث تجاوز عدد اللاجئين المليون في بلد بدأت تلوح فيه مجدداً خطوط تماس مذهبية من صيدا إلى طرابلس مروراً بأحياء بيروتية وبالبقاع حتى حدود الهرمل وعكار. ثمة خطر يهدد الخريطة الديموغرافية في هذا البلد. وما يخجل اللبنانيون من تداوله علناً، على عادتهم، لا يخفونه في مجالسهم الخاصة. يحسبون أن السنّة يكادون يشكلون أكثر من نصف السكان عندما يضيفون إلى سنّة لبنان سنّة المخيمات الفلسطينية واللاجئين. وشريحة واسعة من هؤلاء لا تخفي نقمتها من انخراط «حزب الله» في القتال داخل سورية. وربما يبالغ الحزب في قدرته على «تجنب الفتنة» بالاتكاء على قوى في هذه المناطق توفر عليه «المواجهة المذهبية» المباشرة. وربما يبالغ في سوء تقدير نتائج المواجهة التي فتحها على نفسه في طول العالم العربي وعرضه. ولا يختلف الوضع في العراق كثيراً عما عليه في لبنان. فالاصطفاف المذهبي على أشدّه، وحدود المناطق أو المحافظات تنذر بعودة ما كان أواسط التسعينات من حرب لم تختف آثارها حتى اليوم. خلاصة القول إن الذين يعوّلون على تسوية في سورية شبيهة بصيغة «المحاصصة» التي اعتمدت في لبنان ثم في العراق يتعامون عن حقيقة أن هذه الصيغة أبقت النار تحت الرماد وتوقظها بين حين وآخر. فمهما حاول المسيحيون في لبنان اليوم تزيين مشاركتهم وتمسكهم باتفاق الطائف، يشعر فريق كبير منهم بالغبن والتهميش، وبأن الاتفاق أبرم على أنقاض هزيمتهم التي كانت آخر مظاهرها جولات القتال في ما كان يسمى «المناطق الشرقية» بين الجنرال ميشال عون والدكتور سمير جعجع. ويعرفون في قرارة أنفسهم أن اللعبة السياسية يديرها السنّة والشيعة ويفرضون قواعدها. وتشبه حالهم حال السنّة العراقيين الذين قاوموا طويلاً حكومة بغداد. وعندما ضاقوا ذرعاً بالمتشددين ومقاومتهم أبرموا و «صحواتهم» الصفقة مع شركائهم الشيعة. لكنهم سرعان ما عادوا اليوم ليرفعوا الصوت مطالبين برفع حرمانهم من المشاركة في القرار وإعطائهم حصتهم في الدوائر والمؤسسات. والسؤال هنا: هل تشجع هذه الصيغة من «المحاصصة» العلويين على قبول تسوية ستظل الغلبة فيها للأكثرية العددية مهما زُينت ولُطفت؟ وإذا لم تعد «المحاصصة» دواء ناجعاً لتقسيم الدولة الواحدة بين الطوائف والمذاهب، فكيف السبيل إلى إعادة ترميم الحدود الأكبر التي خطّها السيدان سايكس وبيكو قبل نحو قرن؟ هل تكون التسوية بتقسيم المقسم بعد مزيد من الحروب والمجازر؟