أكد الرئيس باراك أوباما، بتعامله مع التقارير التي تحدثت عن استخدام النظام السوري أسلحة كيماوية، أنه لن يبدل موقفه السابق، ولن يغير «قواعد اللعبة» حتى وإن تجاوز نظام الرئيس بشار الأسد «الخط الأحمر». وعندما يتحدث وأركان إدارته عن وجوب توافر أدلة دامغة أو التثبت من «استخدام ممنهج» لهذا السلاح، فإن هذا يعني إما أن واشنطن لا تملك ما يكفي من الأدلة، ولا تريد تالياً تكرار تجربة العراق حين قرر الرئيس جورج بوش غزوه بحجة تدمير أسلحة الدمار الشامل ولكن تبين لاحقاً أن نظام صدام حسين لم يكن يملك شيئاً منها، أو يعني أنها تتهرب، حتى وإن اضطر الرئيس الأميركي إلى رسم خط أحمر جديد. لو كان الرئيس أوباما عازماً على التدخل في الأزمة السورية وتنفيذ دعواته المتكررة للنظام بالرحيل، لما كان بحاجة إلى تكبيل سياسته برسم «خط أحمر» لدمشق، فما الفرق بين ضحايا تسقط كل يوم بالرصاص أو الصواريخ أو «البراميل الجوية» أو قذائف الدبابات والراجمات والطائرات، وبين تلك التي تسقط بالسلاح الكيماوي ما دام النظام لجأ إلى كل أسلحته وتجاوز كل الخطوط الحمر؟ ما الفرق بين موت وموت وضحية بهذا السلاح أو ذاك؟ وماذا عن التقارير الدولية التي تتحدث عن المجازر الجماعية، وآخرها مجزرة البيضا؟ كان واضحاً منذ اندلاع الأزمة السورية أن الإدارة الأميركية لن تتدخل، فالرئيس الذي خاض معركته الانتخابية على أساس الانسحاب من العراق ومن ثم أفغانستان لن يكون مستعداً للوقوع في تجربة سلفه وخوض حرب جديدة في الشرق الأوسط الكبير أو الصغير يخشى أن تؤدي إلى إشعال المنطقة برمتها، نظراً إلى ما تمثله سورية من شبكة مصالح إقليمية ودولية معقدة. لذلك ليس مفاجئاً أن يتحول «الخط الأحمر» الذي رسمه الرئيس أوباما رمادياً غامضاً كما كان موقفه منذ البداية، بل كما كانت سياسته منذ الولاية الأولى إلى اليوم: اعتماد الديبلوماسية «سلاحاً»، والاستعداد لإشراك القوى الدولية في السعي إلى الحلول والتسويات. وأحياناً الوقوف في الصفوف الخلفية ودفع الشركاء أو قوى إقليمية (كما حصل في ليبيا مثلاً) إلى أداء دور كانت القوات الأميركية إلى سنوات خلت هي من يتنطح لتأديته. وإذا كان يحرص على طلب مزيد من الأدلة، أو إذا كان وأركان إدارته يلجأون إلى مقولة أن كل الخيارات مطروحة، فإن الخيار الوحيد غير المطروح هو عدم التدخل، فكيف ستتوافر أدلة كافية إذا كانت دمشق لا ترغب في استقبال لجنة التحقيق الدولية، وإذا كانت روسيا عاجزة عن إقناعها بتسهيل عمل هذه اللجنة، علماً أن الرئيس الأميركي لم يحدد الخطوات التي سيتخذها عندما حذر الرئيس الأسد من «تغيير قواعد اللعبة»، كما أن الحصول على أدلة ليس بالأمر المستحيل حتى من دون لجنة تحقيق دولية. لا يملك الرئيس أوباما سوى اللجوء إلى هذه الذرائع للرد على الضغوط التي يمارسها المعسكر الجمهوري من أجل التدخل، بتسليح المعارضة أو قصف مواقع للنظام أو إقامة ملاذات آمنة لإيواء اللاجئين وحماية المعارضين وهيئاتهم... بل لعله تراجع إلى خلف الخط الذي رسمه، الأمر الذي يشجع النظام على مواصلة حملته بكل ما يتوافر لديه من سلاح. ألم تمارس إدارته -ولا تزال- السياسة نفسها مع إيران من سنوات، تلويحاً وتهديداً بكل الخيارات المطروحة على الطاولة... فيما المفاعلات النووية تواصل عملها؟ تريثت واشنطن طويلاً، ومثلها فعل شركاؤها الأوروبيون، راهنوا على الوقت لعل مفاجأة ما تبدل ميزان القوى ويحصل التغيير بهزيمة النظام أو بتسوية سياسية توقف حمام الدم. وقفوا خلف المبادرات العاجزة للجامعة العربية، ثم خلف مهمة كوفي أنان، وبعده خلف مهمة الأخضر الإبراهيمي، الذي راهن منذ البداية على إحداث اختراق شبه مستحيل في مواقف القوى الكبرى، فضلاً عن مواقف القوى المتصارعة على الأرض. ترددوا طويلاً تحت شعار الحرص على عدم انهيار الدولة السورية ومؤسساتها، والحرص على مصير الأقليات. وتحت شعار الخوف من تنامي العناصر المتطرفة، مثل «القاعدة» وغيرها، وخوفاً من انزلاق البلاد إلى حرب أهلية طاحنة لن يكون الجيران بمنأى عن لظاها، وستشكل تهديداً لحلفاء الولاياتالمتحدة ومصالحها في المنطقة... إلى آخر المعزوفة التي استهلكت. ربما غاب عن أركان الإدارة الأميركية ورئيسها أن الرئيس جورج بوش الابن قرر منذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض أن ينهج سياسة انكفاء إلى قضايا الداخل بعيداً من القضايا الدولية المستعصية، خصوصاً قضية الشرق الأوسط، وأثارت هذه السياسة مخاوف شركائه الأوروبيين والدول التي بدأت تتلمس طريقاً جديداً بعد سقوط القبضة السوفياتية. لم يطل الوقت حتى شنت «القاعدة» «غزوتي واشنطن ونيويورك»، فتبددت هذه السياسة، وكان غزو أفغانستان ثم العراق والحروب المفتوحة إلى اليوم في مواجهة الجماعات المتشددة، لذلك يبدو أن لعبة الوقت لم تخدم الأهداف التي جعلت أميركا وأوروبا تترددان، فسورية تتقدم سريعاً نحو حرب مذهبية لا رجعة عنها، وإذا كان النظام يستعين بحلفائه اللبنانيين والإيرانيين في معركة حمص والقصير لتعزيز مشروع «إقليمه» الساحلي وتأمين حلقة وصله بالبقاع اللبناني، فإن خصومه فتحوا له في الأيام الأخيرة معركة الساحل على مصراعيها لضرب مثل هذا المشروع. ولا شك في أن هاتين الجبهتين تعجلان في زج السوريين في أتون حرب مذهبية لا يفيد بعدها الحديث عن تسوية سياسية لا على قاعدة «خطة جنيف» ولا غيرها. ولعل الجانب الأخطر الذي كانت الإدارة الأميركية تخشاه بدأ يتحقق سريعاً أيضاً، فقد تقاطرت إلى سورية أفواج المتشددين، ولا حاجة إلى الحديث عن «جبهة النصرة» وأدبياتها وشعاراتها وما تشكله من تهديد على هوية الدولة السورية وجيرانها أيضاً. والأخطر أيضاً أن النار السورية فاضت خارج الحدود، فالأزمة السياسية في العراق تكاد تتحول من مواجهة بين الأقاليم السنية وحكومة نوري المالكي إلى مواجهة مذهبية واسعة، وإذا كانت واشنطن نجحت في الضغط على زعيم «دولة القانون» وعلى الأكراد لتبريد الأجواء والسعي إلى حل مع ساحات الاعتصام، فإن هذا النجاح قد لا يعمر في ضوء خطابات التصعيد والتحدي المتبادلة بين الحكومة وخصومها، كما أن دول الخليج لم تسلِّم ولن تسلِّم للجمهورية الإسلامية بالبقاء مطلقة اليدين في بغداد، ولن تسلم لها بترسيخ قواعدها في عدد من الساحات العربية. ولا يقتصر الخطر على العراق وحده، فلبنان الذي نجح حتى الآن في التقاتل على الساحة السورية دعماً لهذا الطرف أو ذاك، قد لا يصمد طويلاً في امتحان «النأي بالنفس» ويقترب من نقل المعركة إلى الداخل، خصوصاً إذا تعذر قيام حكومة جديدة وإجراء انتخابات برلمانية باتت شبه مستحيلة في ظل هذا الانقسام. ويتقاسم لبنان مع الأردن أفواجاً تتزايد كل يوم من اللاجئين، الذين سيتحولون عاجلاً أم آجلاً قنبلة موقوتة تهدد استقرار البلدين سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً، وإذا كانت عمان أعلى صوتاً من بيروت في طلب العون ولا أحد يستجيب النداء، فإن لتهديد استقرارها حساباً مختلفاً في سياسات واشنطن وأوروبا، مثلما لها حساب مماثل في سياسات دول مجلس التعاون. وإذا كانت إسرائيل تكتفي بالمراقبة والتدخل بين حين وآخر حتى الآن، فإن تركيا التي أعادت ربط ما انقطع مع الدولة العبرية ونجحت في ترتيب صفقة مع عبد الله أوجلان، تستعد للتعامل مع مستقبل الوضع خارج حدودها الجنوبية، وهي تصرح علناً أنها لن تستقبل مزيداً من اللاجئين في أراضيها. قد تكون الولاياتالمتحدة أفادت حتى اليوم من سياسة الانتظار وكسب الوقت، وأفادت من استنزاف نظام الرئيس الأسد وبعض القوى المتشددة، على شاكلة «جبهة النصرة»، ومن إشغال إيران وتهديد وجودها قريباً من المتوسط وزج حليفها «حزب الله» في المعركة لاستنزافه أيضاً، لكن اتساع رقعة المواجهة على مستوى الإقليم لم يعد يهدد سورية وحدها ومستقبلها، بل باتت النار تقترب من ساحات أصدقاء واشنطن ومصالحها، وقد يكون الثمن الذي ستدفعه في هذه الحال أكثر فداحة مما كانت ستقدمه لو خرجت من ترددها باكراً. باتت خياراتها ضيقة ولن ينفع التراجع إلى خط أحمر جديد، كما فعل ويفعل رجب طيب أردوغان! ولن ينفع التدخل العسكري كما لن ينفع الوقوف في الصفوف الخلفية. إذا لم تستعد زمام المبادرة لفرض نهاية لهذه الحرب وفرض التغيير المطلوب، فإن خيارات خصومها بالمواجهة لن تقف عند حدود «حزب الله» وإيرانوروسيا، ستصل إلى... بحر الصين وكوريا الشمالية، وسينتظر السوريون إلى ما بعد لقاء باراك أوباما وفلاديمير بوتين الشهر المقبل، وإلى ما بعد نتائج الانتخابات الرئاسية في الجمهورية الإسلامية...