يمر المسيحيون في لبنان اليوم بما يشبه أزمة منتصف العمر، إذ تيقنوا أخيراً ان المتبقي من عمرهم (السياسي) أقل بكثير مما مضى. فالصراع السنّي-الشيعي الدائر في المنطقة، والمنعكس مباشرة على لبنان، لبنانهم، لا يعنيهم إلا لجهة ما ينتج منه من احتمالات ضمان استمرارهم في المعادلة المقبلة او انسلاخهم الكلي عنها. وهي معادلة لن يكونوا شركاء في صياغتها مهما حاولوا، كما لن يكون لهم ذلك الدور الذي منح لهم ذات استقلال، وما زالوا يعتاشون عليه. والحال أن المسيحيين في لبنان، على خلاف إخوانهم في المنطقة كلها من فلسطين إلى سورية والعراق وحتى مصر، كانوا إلى حد بعيد علة وجود هذا البلد الذي اعتبر فسحة الأقليات في محيط أكثري. فتكرس لهم رئيس جمهورية، وحصة تمثيل نيابي تفوق واقعهم الديموغرافي، وما يتبع ذلك من حضور في الاقتصاد والحيز العام الاجتماعي والثقافي. وبهذا طبع لبنان، في الوعي المحلي والاقليمي، بهذا الاستثناء الذي يحلو للمسيحيين تسميته «رسالة». وعند أول تهديد لتلك الخاصية مع صعود النفوذ الفلسطيني وفتح الباب على يقظة عربية وعمق «سنّي» أكثري، كان المسيحيون أول من حمل السلاح من خارج مؤسسات الدولة للدفاع عن تلك الدولة بمعنى ما، أو عن «الكيان اللبناني» الذي يختصر بحسبهم فكرة الدولة الموعودة غداة الاستقلال. وهم إذّاك شكلوا استثناء آخر في محيط عربي تماهى فيه المسيحيون مع السلطة أو رحلوا عنها. في تلك المرحلة لم يكن الشيعة بعد طرفاً في المعادلة الداخلية أو العربية كما هم اليوم، ولا كان الصراع بين «أكثريتين» لا تأخذ في الحسبان أقلية ضئيلة كمسيحيي لبنان. وفي سياق آلياتهم الدفاعية، اعتمد هؤلاء على مظلة تحالفات تتناقض مع تلك الخصوصية التي يدافعون عنها. فانضوى مسيحيو 14 آذار تحت لواء سنّي، فيما فضّل مسيحيو 8 آذار الاحتماء بمظلة شيعية، وراح كل فريق يستبسل في سبيل الإبقاء على حصته ضمن الكعكة المقسومة سلفاً. وعلى مدى ثلاثة عقود، لم تنتج «المارونية السياسية» التقليدية قيادات شابة تتمتع بالكاريزما أو بالرؤية السياسية الواضحة، بل جاء شباب يجترون ما سبقهم اليه الأجداد قبل الآباء. والواقع انه بغض النظر عن التحالفات والاصطفافات السياسية، يبقى أن مزاج الرجل المسيحي العادي وغير المسيّس، هو الذي تعبر عنه «العونية» كحالة شعورية وليس بالضرورة تنظيمية في «حلف الأقليات» الذي يتجاوز لبنان إلى الموقف من الثورة السورية نفسها. فبامتحان بسيط للنيات تتكشف لدى الجمهور الواسع من 14 آذار المخاوف نفسها التي تنتاب جمهور خصومهم من صعود الاسلام السياسي «السنّي» في البلد المجاور. وإذا كان نموذج «حزب الله» غير مطروح على حلفائه المسيحيين، يكفي رجلاً من القوات اللبنانية أو حزب الكتائب مثلاً أن يتلفت من حوله، إلى الدائرة الضيقة من حلفائه أولاً، ليصعقه أنه في خندق واحد مع مقاتلي التبانة والشيخ أحمد الأسير، فيما «القيادات المعتدلة» التي يفترض أن تجمعه بها قواسم مشتركة، تتنقل بين اليخوت ومنحدرات التزلج. لا يحسد المسيحيون على وضعهم اليوم. فلا رصيدهم يسعفهم في مزيد من الاستثمار ولا امكاناتهم ترشحهم لأكثر من حجمهم الديموغرافي الفعلي. * صحافية من أسرة «الحياة»