المعالم الأساسية لخريطة التأزم السياسي اللبناني ليست مغايرة لما هي عليه في المنطقة، حيث تقاطع المصالح الدولي يطغى على كل قواعد اللعبة الداخلية، ليرسم التحالفات والاصطفافات. ومن هنا، فإن رياح الفتنة السنية - الشيعية الآتية من «المنخفض» الطائفي الخطير، الذي يرزح العراق تحته ويهدد أكثر من مكان في المنطقة، تبدو حارة وجافة على اللبنانيين الذين وإن خبروا الحرب الاهلية وذاقوا مرارتها، إلا أنهم لا يبدون بعيدين من الانجرار اليها مرة جديدة، تحت عناوين مختلفة عما كان في 1975. الخلاف السياسي الذي تتواجه فيه قوى «14 آذار» و «8 آذار»، بوصفهما واجهتين سياسيتين للفصيلين السنّي (تيار المستقبل) والشيعي (حزب الله)، قد يشكل اليوم فرصة نادرة للقوة الثالثة المتمثلة بمسيحيي لبنان لاستعادة الدور المركزي الذي فقدته بسبب التقهقرات المتلاحقة. الواقع المسيحي السياسي المنقسم اليوم قد يزيد صعوبة عملية الإنعاش. فالفريقان الكبيران، التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية أصبحا تابعين في لعبة المعسكرات، وما يسري على هذين الحزبين ينطبق ايضاً على الآخرين الأقل فاعلية وتأثيراً. وهنا يجب التمييز بين نظريتين. الأولى تقول ان الانقسام المسيحي والتبعية للفريقين المسلمين الاساسيين يزيدان صعوبة استنهاض أبناء الكنيسة لدورهم. أما الثانية فتشير الى ان ثمة قوة صامتة في المجتمع المسيحي قادرة على إحداث الفارق لتحريك الماكينة المسيحية من جديد. أصحاب النظرية الاولى يستندون في دفاعهم عن وجهة نظرهم الى ان ارتماء التيار الوطني الحر في أحضان «حزب الله» واقتراب تيار المردة الى درجة تقارب الالتصاق بسورية، يضعهما في مقاعد الصف الخلفي، أي بعيداً من أي قرار يتخذ في صفوف «8 آذار» ليكتفيا بالتصفيق عند الحاجة أو ترويج ما يتخذه «حزب الله» عند مؤيديهم في الشارع المسيحي. ويرى واضعو هذه النظرية أن الأمر نفسه ينطبق وإن اختلف بتظهيره عند القوات اللبنانية وحزب الكتائب وما تبقى من تجمع قرنة شهوان والوطنيين الأحرار، الذين وإن شاركوا في صوغ اي قرار تتخذه «14 آذار»، فإن الكلمة الفصل تبقى عند تيار المستقبل الذي تدور كل هذه القوى في فلكه، بصفته صاحب الثقل الشعبي الاكبر. ويستنتج هؤلاء ان ارتضاء الفرقاء المسيحيين بأدوار تابعة لن يعيدهم الى دائرة صنع القرار في لبنان، بل يبقيهم كفرقة «كورال» تردد مواقف الحلفاء. أصحاب النظرية المضادة يرون ان تراجع حيوية المسيحيين في العالم العربي عموماً من شأنه تزخيم واقعهم في لبنان، حيث المسيحيون أكثر حرية وقدرة على التحرك في ظل نظام سياسي ديموقراطي يرأسه (ماروني) كاثوليكي، ويمثل المدماك الرئيس لحماية الوجود المسيحي في الشرق. أنصار هذا الطرح يدعمون وجهة نظرهم بالقول إن المسيحيين اللبنانيين يملكون مقومات يمكن استغلالها لتغير واقع الحال. فهم أمسكوا على مر التاريخ، ولا يزالون، بمواقع حيوية في الدولة وخارجها، لا سيما في المجتمع الاقتصادي، حيث حاكم مصرف لبنان ورئيس جمعية المصارف ورئيس جمعية التجار، ورئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين، كلها مناصب محفوظة لهم، فضلاً عن نسبة كبيرة من الوكالات الحصرية. وبالتالي، فإن هناك إمكانية كبيرة لتدعيم دورهم من خلال تحرك معين يهدف الى بلورة مواقف مشتركة، وهنا يمكن الرهان ايضاً على دور المجتمع المدني والروابط والمجالس كالرابطة المارونية والمجلس الماروني العام ومجلس كنائس الشرق الاوسط وغيرها من اطراف القوة الصامتة التي لن تبقى خلف الكواليس لوقت طويل، لأن المجتمع المسيحي يعول على تحركاتها لرأب الصدع السياسي الذي يطغى على الصورة حالياً. ثمة رهان على ان المسيحيين قادرون على فعل شيء يساهم في كبح الفتنة السنية - الشيعية ويساعد طرفيها على الخروج من مآزق المحيط في المنطقة كلها. وإذا كان القول بأن لبنان لا يطير إلا بجناحيه المسيحي والمسلم، فالواقع اليوم ان الجناح المسلم يعاني شداً عضلياً لا يسمح له بالحركة الطبيعية، لذلك فإن على الجناح المسيحي ان يعمل بكل طاقته للإبقاء على توازن الجسم اللبناني. * كاتب وصحافي لبناني.