دخلت الأزمة السورية منعطفاً جذرياً بفعل جملة من التطورات. أولها سقوط مدينة القصير التي كشفت حجم التدخل الإيراني عبر «حزب الله». وثانيها إقرار واشنطن، بعد تمنع أو تهرب، بأن النظام استخدم السلاح الكيماوي. ثم فوز الإصلاحي المعتدل حسن روحاني برئاسة الجمهورية في إيران طاوياً ثماني سنوات من حكم المحافظين. تحولات تستدعي بالتأكيد تغييراً في قواعد اللعبة. فالإدارة الأميركية قررت تسليح المعارضة نزولاً عند رغبة كثير من حلفائها في أوروبا والمنطقة. في حين بدأ يلوح اصطفاف سنّي، ديني وسياسي، يدعو إلى مواجهة مع «الهلال الإيراني» في المنطقة. وهذا ما ينذر بمشهد جديد في الساحة السورية: التوجه نحو تسعير أجواء الحرب الدينية المذهبية بين إيران ودول عربية عدة فضلاً عن تركيا. والتوجه أيضاً نحو تسعير للحرب الباردة القائمة بين أميركا وروسيا التي تريد أن تحتفظ بوجودها العسكري في الشرق الأوسط أياً كان الثمن. سورية أمام ثلاثة أنواع من الحروب. وليس هذا جديداً. فالقتال في الداخل جرّ إلى اصطفافات داخلية عميقة. واستدعى تالياً تدخلات واصطفافات خارجية، إقليمية بين إيران وحلفائها من جهة وعدد من الدول العربية وعلى رأسها الخليجية وتركيا من جهة أخرى. وتدخلات دولية أميركية وروسية وأوروبية. ولا يقتصر تدخل هذه الدول والقوى على مناصرة هذا الفريق أو ذاك بمقدار ما يستهدف تعزيز مواقع المتدخلين وأوراقهم في الصراع القائم في المنطقة، وهو أساساً بين الجمهورية الإسلامية والولاياتالمتحدة، ومن يقف خلف هذه أو تلك. ولكن، مهما بلغت حدة العوامل الخارجية تبقى الكلمة الفصل لقوى الداخل. التغييرات في العالم بعد سقوط الحرب الباردة قبل عقدين ونيف، وبعد هبوب عواصف التغيير في العالم العربي، نقلت الشعوب من الهامش إلى صلب الفعل والتأثير في صنع قراراتها ومستقبلها. لذلك، مهما بلغ حجم الحضور الإقليمي والدولي في الساحة السورية، ستظل للقوى الداخلية الكلمة الأولى في توجيه الأحداث وتحديد مسارها ومآلها. من هنا، تتبدى صعوبة دفع هذه القوى إلى طاولة البحث عن تسوية سياسية. وقد تظل هذه التسوية بعيدة المنال، أقله حتى نهاية ولاية الرئيس بشار الأسد منتصف العام المقبل. فإذا كان الدعم الذي قدمته روسياوإيران وحلفاؤهما إلى النظام سهل عليه تحقيق تقدم عسكري على معارضيه، فإن قرار أميركا وشركائها تسليح المعارضة قد لا يرقى إلى أبعد من إعادة التوازن على الأرض. وهي عملية تستغرق وقتاً ليس بقليل. الحسابات الإقليمية والدولية قد لا تحقق المبتغى سريعاً، كما يتوقع بعضهم. بل ربما عجلت في سباق تسلح غير مسبوق، على رغم إدراك جميع اللاعبين أن الأزمة لن تحل في الميدان أو بالحسم العسكري مهما طال الزمن واستعرت الحروب. والرهان على التجارب السابقة ليس في محله. لقد تبدلت جذرياً قواعد الحرب الباردة، مثلما تبدلت قواعد الحروب الدينية، أو لنقل تجربة أفغانستان وهزيمة السوفيات فيها. فلا روسيا تؤهلها الجغرافيا والاقتصاد لتكرار تجربة الاتحاد السوفياتي. ولا الولاياتالمتحدة قادرة على أداء دورها القديم في ضوء أزمتها الاقتصادية وأزمة شركائها الأوروبيين، وصعود قوى دولية فاعلة في آسيا وأميركا اللاتينية. حتى لا نتحدث عن الظروف الجديدة التي خلقتها أسلحة العولمة الجديدة من الثورة التقنية إلى تداخل اقتصادات الدول وسقوط الحدود التقليدية ومعها السيادات الوطنية، وهو حديث يطول. إضافة إلى هذه المعطيات، لا تشبه ظروف الأزمة وطبيعتها في سورية ما كانت عليه تجربة أفغانستان أو حتى قبلها تجربة فيتنام، وإن تحول الإقليم كله ساحة مواجهة. فلا إيران وحلفاؤها قادرون على إلغاء المكون السنّي الواسع والراجح في سورية أو العراق ولبنان، مهمات حشدت من «حرس ثوري» و «عصائب» و «أحزاب». ولا الدعوة السنّية الدينية والسياسية قادرة على تكرار تجربة «الجهاد» في أفغانستان وإلغاء مكونات شيعية وعلوية وغيرها من مكونات هذه البلدان الثلاثة مهما توجه إليها من قوى متشددة أو سلاح. فلا هذه ولا تلك جاليات أجنبية أو قوات احتلال. فكيف يمكن توافر الحسم لهذا الفريق أو ذاك؟ كيف يمكن أن تلحق طائفة من الطوائف، من بيروت إلى بغداد مروراً بدمشق، هزيمة بطائفة أخرى تهددها بالاقتلاع الكامل؟ وكيف يمكن تالياً أن يلحق المشروع الأميركي مثلاً هزيمة كاملة بمشروع كل من روسياوإيران؟ أو كيف يمكن طهران أن تلحق هزيمة بخصومها الكثر أو أن تحلم بالسيطرة على المشرق العربي وخليجه؟ اقتلعت رياح التغيير في العالم العربي أركان النظام الإقليمي، وبدلت صورة المشهد السياسي علاقات ومصالح وتحالفات. ومن المبكر الجزم بالصورة الجديدة التي ستتشكل. لقد بدا واضحاً في البدايات أن ثمة قطبين رئيسين في المنطقة هما تركيا وإيران ستكونان أكبر المستفيدين من مآل تحولاته هزت أركان الدول العربية التي هبت عليها العاصفة أو تلك التي طاولتها الارتدادات. والذي دفع الدول الكبرى إلى إعادة النظر في استراتيجياتها وشبكة علاقاتها ومصالحها. فالجمهورية الإسلامية وجدت في سقوط أنظمة عربية موالية لواشنطن ضربة للمشروع الأميركي في المنطقة. في حين راحت أنقرة تروج لنموذج حزب العدالة والتنمية مثالاً يحتذى، من شمال أفريقيا إلى بلاد الشام. ولكن، بعد مرور سنتين بدلت الأزمة السورية كل الحسابات والتوقعات. تركيا شكلت في السنوات الأخيرة سداً منيعاً في مواجهة التمدد الإيراني، من انخراطها في قضية فلسطين إلى تقاربها مع كردستان ودعمها سنّة العراق، وأنظمة الحكم الجديدة في بلدان التغيير العربي. وعادت ركناً أساسياً في حلف «الناتو». وكانت أول المستقبلين لدرعه الصاروخية. لكنها اليوم بدأت تهتز تحت وقع أقدام المتحجين في ميدان تقسيم في اسطنبول وساحات المدن الأخرى. وبدأت تُسمع في خطابات قواها السياسية أصوات مذهبية. ولن يكون أمام حزب العدالة والتنمية سوى العودة إلى الداخل لمواجهة رياح التغيير الآتية. أما إيران فمشكلتها مختلفة. تحاول منذ زمن تقليد التجربة السوفياتية بالخروج إلى ما وراء الحدود من دون الالتفات إلى الداخل وقدرته، اقتصاداً واجتماعاً وتنمية، على مواجهة إقليمية ودولية واسعة. انتشت بسقوط نظام «طالبان» الذي شغلها طويلاً بحديقتها الخلفية وحد من دورها في جمهوريات آسيا الوسطى. واكتملت نشوتها بسقوط نظام صدام حسين الذي شعرت معه بتهاوي كل الحواجز أمام تقدمها إلى العراق ثم نحو الخليج وشاطئ المتوسط. ولا شك في أن ما تشهده سورية والعراق ولبنان اليوم يشكل استنزافاً متواصلاً لقدراتها العسكرية، ولاقتصادها المتداعي بفعل الحصار والعقوبات. وستجد نفسها مع القرار الأميركي تسليحَ المعارضة السورية أكثر انشغالاً بالمستنقع السوري. وسيكون هذا القرار الملف الأول أمام الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني. فهل يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، ويكرر تجربته في الملف النووي أيام الرئيس محمد خاتمي لينصرف إلى معالجة شؤون الداخل، أم يظل أسير السياسة السابقة التي أدارها المحافظون المتشددون، بقوة المرشد وقوة «الحرس»... حتى تواجه الجمهورية الإسلامية ما واجهه الاتحاد السوفياتي قبل عقدين ونيف؟ هل يواصل الرئيس روحاني التوكؤ على ما كان يسميه المحافظون مشروعاً سياسياً أو إسلامياً جامعاً؟ أم يلجأ إلى مرونة أكبر مع الغرب (في أزمة سورية وفي الملف النووي)، وإلى محادثات مباشرة محتملة مع الولاياتالمتحدة، كما وعد في حملته الانتخابية؟ لقد رفع الخصوم «هلالهم» بزاويتيه المذهبية والسياسية في وجه «الهلال الشيعي والقومي»، فهل تسقط المنطقة في أتون حرب مذهبية، ام يتقدم روحاني من العرب والخليجيين أولاً بخطاب وسياسة مختلفين في الملفين النووي والسوري؟ نجح المعتدلون والإصلاحيون في إيصال مرشحهم إلى الرئاسة الإيرانية. ومن المبكر توقع تغيير جذري وجوهري في مواقف طهران. ونجحت قوى الضغط في دفع الرئيس باراك أوباما إلى تغيير موقفه المتردد حيال الأزمة السورية من أجل إقامة توازن في الميدان العسكري. ألا يدفع هذان التحولان روسيا إلى إعادة النظر في مواقفها؟ «الربيع السوري» بدل قواعد لعبة التغيير في العالم العربي. فلا الحسم العسكري متوافر أو مسموح به، ولا التسوية بين الكبار القريبين والبعيدين قريبة. فما يطلبه هؤلاء الكبار من القوى السورية المتناحرة يجب أن يبدأوا به في ما بينهم. وإلى أن تكتمل صورة التحول في إيرانوواشنطن، هل تتقدم سورية نحو التغيير، أم تبقى ومعها لبنان والعراق المتورطان في ساحتها، أسيرة خيار الانتظار ومواصلة القتل، أو خيار الفيديرالية والتقسيم على وقع التدخلات الخارجية؟