«الحياة طويلةٌ جداً»..عبارةٌ قالها الشاعر ت.س.إليوت يوماً، وبها اختار جون ويلز أن يفتتح فيلمه «شهر آب: مقاطعة أوسيج»، على تقطيعٍ هادئ للقطات ثابتة تختصر الطبيعة الجغرافية الخارجية القاحلة للمكان. تنتقل كاميرا ويلز إلى الداخل لنلتقي (سام شيبرد) الذي تعرفنا للتو إلى صوته ينطق تلك العبارة، ولنراه جالساً في العتمة ينظر من نافذة مكتبه إلى هذا الخارج، متابعاً حديثاً هادئاً مع مدبرة منزل جديدة، هندية من سكان أميركا الأصليين، قرر توظيفها لتتكفل العناية بشؤون المنزل وبفيوليت (ميريل ستريب)، زوجته المصابة بسرطان الفم والمدمنة جميع أنواع الحبوب، والتي لن تتأخر في اقتحام المشهد الهادئ، لتسجّل دخولاً مدوياً يقدمها إلينا كأفضل تعريف بهذه الشخصية المحورية لامرأة مضطربة، وعدوانية. سيمهّد حضورها الافتتاحي ما يليه داخل مسار الفيلم التصاعدي كاشفاً عن علاقاتٍ متوترةٍ، معطوبةٍ، وغاضبة، بين أفراد عائلةٍ غادرتها ابنتاها (جوليا روبرتس) و (جوليت لويس)، وبقيت ثالثتهما (جوليان نيكيلسون) للاعتناء بأمها، داخل منزل تحكمه أمزجة منهكة بماضيها، وخذلانها، وإدمانها... أفول شاعر سنعلم أن (سام شيبرد) شاعرٌ وأستاذٌ جامعي يعيش أفوله الأكاديمي والإبداعي منذ سنوات طويلة، مدمن كحول، تسكنه كآبة تحضّه دوماً على الرحيل. إنه المشهد الذي سنراه فيه للمرة الأخيرة قبل مغادرة مفاجئة ستشكل ذريعة السيناريو لإعادة جمع الشخصيات داخل بيت العائلة التي ستتلقى خبر إنهاء الأب حياته، بعد أن مهّد له مشهدٌ قصيرٌ يرينا إياه في عزلته على قارب صيد اتخذ عليه قراره باختيار خاتمة حياته قبل أن تنتهي صفحاتها. العبارة التي استعارها جون ويلز ليفتتح بها فيلمه ستتصاعد بكثافة في التفاصيل اللاحقة لتفسر عمق الأزمة النفسية والوجودية للأب الراحل، ولتفتح كذلك آفاقاً لقراءة مأزق جيلين من عمر أميركا سيجلسان، في مواجهة شرسة، لتصفية حسابات الماضي ولإزاحة الرماد عن الغضب الذي يسكن علاقة الانتماء للمكان وللزمان. نحن في ولاية أوكلاهوما، في قلب وسط الغرب الأميركي، الأرضية المكانية المثالية لفيلم سينهض بالكامل على فكرة المكان الطارد، جاعلاً من هذه البقعة الجغرافية القاحلة الصحراوية شاهداً على محاسبة قاسية بين جيلي الآباء والأبناء. جيل الآباء الذي عاش الانهيار الاقتصادي الكبير في ثلاثينات القرن المنصرم، ومن ثم ضائقة الحرب العالمية الثانية، صاحب التجربة القاسية في الطفولة والكفاح المضني من أجل البقاء والتعلم والعمل في ظروف معيشية مخيفة في شظفها وعنفها، قبل أن ينعم أخيراً باستقرار اقتصادي لم يجعله سعيداً على رغم الحياة المريحة التي حملها له ولمستقبله، وجيل الأبناء الذي يراه من وجهة نظره جيلاً مدللاً مترفاً وجاحداً. لكن لجيل الأبناء روايته أيضاً، والتي لا يرى فيها معاناة أقل. إنه الجيل الوسط الذي لم يعرف ربما طفولة قاسية في فقرها وحرمانها، لكنه لا شك في أنه وجد نفسه مع بداية دخوله حقل العمل أمام بلد يتهاوى بفعل سلسلة من الانهيارات الاقتصادية أتت على دفعات متلاحقة لتضعه وسط قلقٍ دائمٍ من غدٍ ضبابي الملامح ومن مستقبل لا يبدو فيه أفق للاستقرار، فعاش يحمل طموحاً دائماً بالمغادرة إلى حيث يعتقد أن للحياة معنًى أفضل. ستحضر أوكلاهوما إذاً كبطل أساسي في فيلم جون ويلز وكمحرك لأحداثه وكدافع وراء خيارات الشخصيات لمصائرها. هناك حيث الامتداد الصحراوي اللامنتهي لولاية تحمل لقب «طنجرة الغبار» لما هي عليه من ولاية نفطية تغيب عنها مظاهر الريف الزراعية التقليدية، وفي قلب شهر آب، التوقيت الفصلي الأسوأ للمكان حيث للبشر موعد فيه مع جحيم يرتاد الأرض بطقسه الحار الذي لا تقوى حتى الطيور الاستوائية على تحمله. حطام شخصيات متصارعة على هذا الجحيم الواقعي والنفسي بنى الفيلم مسرح أحداث هذه الدراما العائلية التراجيدية حيث تلتقي الشخصيات لتحطم بعضها وتتحطم ولتكسر بعضها وتتكسر، ولتنبش الأسرار، وتنكأ الجراح وتفضح الخيبات، مفترسة بعضها بالاتهامات في محاولة يائسة للخلاص. ستفعل الشخصيات كل ذلك قبل أن تكرر هروبها، تاركة فيوليت وحيدة تصارع أشباحها. رُشّح فيلم جون ويلز لجوائز أوسكار عدة، وقام السيناريو فيه على نص مسرحي ذائع الصيت حمل العنوان نفسه لكاتبه تريسي ليتس الذي قام بنفسه بتحويله إلى سيناريو الفيلم السينمائي في محاولة ربما لقطع الطريق على أي سجال قد يتأتى من انزياح ما في الرؤية نتيجة تغيّر الكُتّاب أمام اختلاف وسائط التعبير المسرحية والسينمائية. هذا العمل الفني الثري في تعدد مستويات قراءته في الواقع الاجتماعي والاقتصادي لأميركا، ينتمي إلى نسق السينما الأميركية البارعة في تفكيك بنية العائلة كمشروع بحث مستمر في إشكالية الانتماء إلى التاريخ وإلى جغرافيا ما زالت تتشاركها مع البقية الباقية من سكان المكان الأصليين. ويبدو أنه كان لا بد لهذا الغنى الدرامي من أن يشكّل مادة مغرية للاقتباس، ما جعل فيلم «روك القصبة» للمغربية ليلى المراكشي يبدو كأنه النسخة العربية لفيلم «شهر آب: مقاطعة أوسيج»، وهي التي صرحّت عن تأثرها به من ضمن تأثرات أخرى. لكن الفيلم المغربي الذي حمل كل جماليات بناء الصورة وتكوين اللقطات وحيوية الألوان، أتى ليسحب كامل دسم الفيلم الأميركي القاتم الأصل، مكتفياً فقط بالهيكلية العامة للحكاية وباختيار الشخصيات بصيغة بدت في طرحها الخفيف، ومعالجتها السطحية مفتقدة أي بحث عميق في الظرفية المكانية والزمانية لبلد كالمغرب لا بد من أن فيه الكثير ليقال أبعد من تلك الصورة النمطية المُعدّة سلفاً للاستهلاك عن الشرق، والتي أصبحت سمة لبعض الأعمال العربية التي تجيد صناعة أفلامٍ بجماليات شكلية وسخاء في إخراج جميع المحرمات الاجتماعية لحشرها دفعة واحدة داخل سيناريو يضمن تسويقاً للفيلم ورواجاً لاسم صانعه. يحق لنا رسم خطوط تقاطع بين الفيلمين للتشابه الكبير في بنية السيناريو والشخصيات والعلاقة المتأزمة مع المكان التي حصرتها ليلى المراكشي في سلطة ذكورية خانقة داخل مجتمع أبوي مسيطر تكون ضحيته المرأة التي ما زالت على رغم كل انفتاحها الثقافي على الخارج، لا تملك حريتها خارج أسوار بيت العائلة وبعيداً من سلطة الأب. نحن هنا أيضاً أمام موتٍ افتتاحي مفاجئ للأب (عمر الشريف)، سيجمع أفراد العائلة على امتداد ثلاثة أيام في قصر العائلة في طنجة من أجل مراسم الدفن وطقوس العزاء. الأم (هيام عباس) هادئة، وحريصة على إبقاء الأسرة متماسكة، والابنتان متزوجتان تعيشان في بيت العائلة، الأولى (لبنى الزبال) مدرّسة تقليدية، التزمت دينياً واجتماعياً، والثانية (نادين لبكي) مشغولة بعمليات التجميل وشرب البيرة سراً لإخفاء فراغها الداخلي ومللها كأم وزوجة فقدت الشغف في أن تكونهما. أما الابنة الثالثة الصغرى (مرجانة العلوي) التي ابتعدت لتعيش وتعمل في أميركا منذ سنوات ممثلة في أفلام تجارية، تؤدي فيها دور العربية الإرهابية كما يحلو لهووليود تنميطها، فإنها تعود لتحرك الركود وتحرّض على البوح والمواجهات، بصحبة ابن لا يتحدث إلا الإنكليزية، تاركة وراءها زوجاً أميركياً تخفي انفصالها عنه. في الوقت الذي تغيب الابنة الرابعة ليكون غيابها معطى السيناريو من أجل اقتفاء أثر الماضي واستعادة أوجاعه. فهي المنتحرة في لندن بعد عملية إجهاض إثر قصة حب مستحيل سنعلم أن بطلها ليس إلا أخاً لها من زواج سري للأب مع الخادمة، ما وضع الفيلم في منطقة التباس درامي حين نقل الثقل من حيّز الفارق الطبقي الاجتماعي بين الحبيبين إلى حيّز العلاقة المحرّمة. حب مستحيل بين عالمين هذا الحب المحرّم حضر أيضاً في الفيلم الأميركي، وكان أحد الخيوط الدرامية التي ستفجر آخر أمل بتماسك العائلة، إلا أن التباين بدا كبيراً بين الفيلمين من حيث البناء المؤسس له. ففي الوقت الذي أتى هذا الحب المستحيل في الفيلم الأميركي لتعيش فيه الابنة الصغرى صدمة نهاية الحلم المنتظر بالرحيل، وانكسار آخر سيقطع مع الإحساس بالانتماء، تأتي هذه العلاقة المحرّمة في النسخة المغربية كعنصر يمهد لنهاية تتصالح فيها الشخصيات مع الماضي ومع إحساسها بالظلم، وليصل الفيلم المغربي إلى نهاياته السعيدة التقليدية التي لا تشبه ما ادّعى تأسيسه في مقدماته. هذا التناقض بين مضمون الخطاب المُراد إيصاله وخيارات السيناريو التوافقية سنراه أيضاً في شخصية الأب الذي من المفترض أنه السبب الرئيس وراء هذا الإحساس بالظلم. لكن الفيلم سيختار لعمر الشريف حضوراً يقطع الطريق على أي طرح معمق لأبعاد الشخصية ولأسبابها وللبيئة الحاضنة، وما تمثله من نموذج نقرأ فيه تفاصيل واقع يغني رؤية العمل السينمائي. فقد جعل الفيلم من وفاة الأب حضوراً له، من خلال ظهوره في مشاهد قليلة تتوزع على مساحة الفيلم كشاهد على مراسم دفنه وجنازته ومعلقاً في عين الكاميرا على الأحداث والخلافات الجارية بعد رحيله عبر حوار مع حفيده لم يخدم في فهم الشخصية. إن هذا الحضور الفانتازي الذي تكسر فيه المخرجة الجدار البريختي الرابع وتُلبسه دفئاً وطرافة في السلوك والحوار، سينتهي تبايناً وتناقضاً بين ما تقوله الشخصيات عن الأثر السلبي للأب عليها، وبين المناخ العاطفي الإيجابي الذي أراده الفيلم لحضوره على الشاشة. هذا الافتراق الذي أبعد الشخصيات عن سياقها وعن تصاعد بوحها وتمردها، جعل الفيلم المغربي أشبه بنسخة مقتطعة من سياق بدا في النسخة الأميركية متكاملاً وأصيلاً ومنسجماً مع كامل بنية شخصياته ومناخه النفسي العام. لكن، يبدو صعباً على بعض الأفلام العربية أن تحافظ على انسجامها مع مكوناتها الدرامية عندما تتصدى لمشروع يخضع اختبار الصدق فيه لاعتبارات ليست دوماً فنية وفكرية خالصة، فتكرر الصيغة نفسها التي تُسهّل رواجها وفرصها في التسويق. إنها تلك العلّة في الكتابة والتعبير والمتمثلة في التفكير في السيناريو بدءاً من نهاية توافقية مرضية عن الشرق والزخرفات المُتخيلة عن تفاصيله، والتي تأتي أشبه بالبطاقات البريدية شكلاً وبالقراءة النمطية مضموناً، فتزيح البناء الدرامي من موقعه الأولوي في الفيلم إلى سياق لاحق محشور في تبرير هذه النهاية ومكبّل بحتمية الوصول إليها، فيقع في التناقض والملامسة السطحية لقضايا يعتقد مخطئاً أنه قد أصابها في العمق.