صَور المُخرج الأميركي ريتشارد لينكليتر فيلمه الروائي الأخير «صِباً» (يعرض حالياً في العديد من الدول الاوروبية)، في تسعة وثلاثين يوماً لكنها موزّعة على إثني عشر عاماً. في هذا الفيلم، قَدَمَ صاحب ثلاثية «قبل...» السينمائية، قصة عائلة أميركية عاديّة بأحداث تمتد على زمن معادل لذلك الخاص بتصوير الفيلم، ليبدو هذا الأخير وكأنه عمل تسجيلي عن حياة أبطاله، من نوع تلك الأفلام التي تبدأ من تاريخ معين ثم ترافق شخصياتها لفترة مُحددة وتتركهم بعد حِين. يستعين الفيلم بممثلين سيلعبون الأدوار نفسها طوال تلك السنوات، اذ سنراهم يكبرون وينضجون أمام أعيننا على الشاشة، فيترك الأبناء البيت في نهاية الفيلم متوجهين الى مدن أخرى للدراسة في الجامعات، بعد أن ظهروا أطفالاً لم يتعدوا السابعة من العمر في بدايته، وسيعاد مراراً تشَكْيل أحلام وحيّوات وخَيْبات الوالدين. النتيجة جاءت مُذهلة، فيلماً إستثنائيّاً لا يُشبه أي شيء قدمته السينما في قرن ونيف. علاقة مع الزمن إذا كان من المُمكن تلخيص سيرة المخرج ريتشارد لينكليتر (مواليد 1960) السينمائية والحديث عن أبرز ملامحها، ستبرز سريعاً تفصيلة علاقته مع الزمن كمحطة مُهمة، بخاصة إن أشهر أفلامه تدور حول الزمن وانقضائه واستعادته والتَحَسّر عليه. يبدو المخرج مفتوناً بالعلاقة بين الزمن الواقعي والسينمائي وكيف يمكن أن يقترب الثاني من الأول لتحقيق لحظات سينمائية خاصة وغير مسبوقة. ورغم إن قصة المخرج الأميركي مع «الزمن» بدأت صدفةً، فالنجاح الذي حققه فيلمه «قبل شروق الشمس» (عرض في عام 1994)، دفع المخرج والبطلين (الأميركي إيثان هوك و الفرنسية جولي ديلبي)، الى إعادة التجربة في فيلمين تاليين يفصل بين كل منهما عشر سنوات («قبل غياب الشمس» من عام 2004، و «قبل منتصف الليل» من عام 2013)، اذ واصل الفيلمان اللاحقان متابعة قصة الأميركي «جيسي» والفرنسية «سيلين»، الذين تقاطعت أقدارهما في قطار كان يتنقل في اوروبا، لتبدأ وتنمو قصة حب، ستتوزع على عقدين من السنوات وثلاثة أفلام سينمائية، حققت شهرة كبيرة حول العالم، وتملك إضافة الى قيمتها السينمائية، ريادة في التجريب الفنيّ، والسير ضد طبيعة الصناعة السينمائية المُتقلبة وأهواء نجومها المُتبدلة. سلسلة «قبل...» هي في جوهرها رحلة في النوستالجيا مُغلفة بالحزن في محاولة للقبض على الحب المثاليّ والزمن المنقضيّ. لم يرغب المخرج في الإستعانة بحيل الماكياج، فيقدم حكاية الحب والصدف والخيارات - أضلاع سلسلة «قبل...» السينمائية- مضغوطة في بضع سنوات. هو أراد للنضوج النفسي والعمري للبطلين أن يسير بشكله الطبيعي، كذلك إستعان المخرج ببطليه لكتابة الجزأين اللاحقين من السلسلة، فهذه الأخيرة تحولت الى جزء من شخصيتهما الفنيّة، إذ ان هناك علاقة مُتوازية مُهمة بين نضج وأزمات الشخصيات الخياليّة التي يلعبانها في السلسلة، والتطور الذي طرأ على شخصيتهما الحقيقية، وبالخصوص علاقتهما بالسينما كوسيط لنقل القصص الإنسانية. في الفيلم الجديد «صِبا»، يُجرب المخرج مجدداً مع «الزمن». فيقدم إثني عشر عاماً مضغوطة في وقت الفيلم والذي يقترب من الثلاث ساعات. لا إشارات خارجية كثيرة مُقحمة تعين المشاهد على التعرف او التنقل بين محطات الزمن في الفيلم. هناك تنويهات قليلة سريعة عن زمن بداية الأحداث للقصة جاءت في مقدمة الفيلم، بعدها سيغيب أي ذكر لمرور الوقت. فيقفز الفيلم من عام الى آخر، سنلحظ تغييرات في ملامح الأبناء ونضج الوالدين. لم يستعن المخرج بموسيقى شعبية مثلاً من الزمن الفعلي للأحداث كخلفية وإشارة لتواريخ الحكاية. في المقابل كانت هناك أحياناً إشارات مُعينة بدت تلقائية ولا تخرج عن سياق تسجيل يوميات مُهمة لأبطال القصة تنسجم مع المقاربة والنفس الخاصين للفيلم. كالمشهد الطويل للأبناء وهم ينتظرون دورهم في الصف لشراء أحد كتب «هاري بوتر»، او إشارات في الحوارات عن حروب الولاياتالمتحدة الأميركية الأخيرة، وإنتخابات الرئاسة الأميركية. عدا عن ذلك، سيمّر الزمن في الفيلم، كما في الحياة، عادياً وبطئياً ومليئاً بالخيبات والعثرات. بعيداً من التعقيد لا تعقيد كبيراً في فيلم «صِباً»، نحن نتبع قصة عائلة عاديّة تمّر عِبر مطبات الحياة. يفترق الوالدان الشابان للعائلة قبل بدء زمن الفيلم، وسيعيش الأبن والأبنة مع الأم، ليمّر بعدها الأبناء بتجارب شبيهة لما يمّر به أقرانهم، كالولاء المُشتت بين الأب والأم، وإنعاكسات علاقات الوالدين الجديدة على الحياة اليومية للأبناء. يتجنب المخرج اللحظات الدرامية الكبيرة، ويركز على التفاصيل الصغيرة، او ما يحدث عندما تنقضي الأحداث الكبيرة. لن نشاهد طلاق الوالدين او زواجات الأم المتعددة. كما إن إسلوب المخرج في الفيلم الجديد يُشبه ما فعله في سلسلته «قبل..»، اي خلق مناخات وحوارات تقترب من الحياة الواقعية، مستعيناً بالممثلين انفسهم، والذين يشتركون في كتابة بعضاً من تلك الحوارات. يبدو الشكل النهائي للفيلم وكأنه نتيجة مُخيلة فذة، حافظت على وتيرة درامية نفسية واحدة طوال سنوات التصوير. هناك ما يشير الى التخطيط الطويل، كالإنتقالات المدروسة بين السنوات، وكيف إن الفيلم حافظ على النفس الواقعي الخاص ضمن حدود السيناريو الذي اختار مساراً غير تقليديّ لتقديم قصة العائلة. الفيلم يحمل إغواء وسلاسّة القصص السينمائية والتلفزيونية الدرامية الجذابة لكن من دون اللغة السينمائية المعتادة لتلك الأعمال، هو يخلق لغته الخاصة ويفتح الأبواب للإرتجالات والإضافات، ويبحث عن الجمال وسط عاديّة اليومي، فهناك مشاهد بجمالية سينمائية فنيّة لافتة، كأحد المشاهد الإفتتاحية للفيلم، عندما يُودع البطل الصغير بيته، والنظرة الشاردة التي كان يبحث فيها عن إبن الجيران، ثم هذا الأخير يتبع بالدراجة الهوائية السيارة التي كانت تنقل صديقه الى مدينة وحياة جديدتين. ورغم إن العنوان والملصقات الدعائية للفيلم توحي إن العمل يُركز على إبن العائلة (الممثل أليار كولتراين)، الا إن الفيلم يُوزع اهتمامه على بقية شخصياته الأربع: الأم (الممثلة باتريشيا أركيت)، والأب (إيثان هوك بطل سلسلة «قبل...» في تعاون جديد مع المخرج)، والإبنة (ريلي لينكليتر، إبنة المخرج في الحياة). كل من هذه الشخصيات ستأخذ نصيبها المُهم من الشاشة. كالأب مثلاً، الشاب الثوري المُتمرد، والموسيقي الهاوي المحدود الموهبة الذي لا يجيد التعامل مع الواقع من حوله، وتبدّله التدريجي والذي يأتي موازياً لنضجه العمري، ثم إنكفاؤه وتحوله الى شخصية مُسايرة. والأم بإختياراتها المُرتبكة، وزواجاتها وعلاقتها المُتعثرة، لكن أيضاً بعزمها على تغيير حياتها والمحافظة على طفليها. والأبناء، والذين يتبدلون من أطفال الى مراهقين ثم بالغين يحملون بدورهم أفكاراً حادّة عن العالم، والذين سيتركهم الفيلم وهم على أعتاب رحلة جديدة، رحلة على رغم إنها لا تختلف عن ملايين الرحلات الأخرى لبشر من كل مكان، الا إن الفيلم حمّلها بكثير من الصدق الدراميّ والنفسيّ الذي يُقربها من الملحمة السينمائية. مغامرة طويلة يكسر «صِباً»، مجموعة من الثوابت الإنتاجية التي تخص صناعة السينما، فهو ينجح بإقناع منتجين للإستثمار بمشروع مُغامر يمتد على سنوات طويلة، وما يعنيه هذا من مخاطرات جديّة كان يمكن أن تربك العمل، او تهز أركان تميزه. كذلك تبدو الإستعانة بأطفال في الفيلم مخاطرة بذاتها، فكان من الممكن أن يفقد هؤلاء إهتمامهم بالتجربة ويتركوها في منتصفها. غني على القول، إن تأثير فيلم «صِباً»، وكحال سلسلة «قبل...»، على المتفرج لا يكتمل من دون معرفة تفاصيل صناعة هذه الأفلام وتركيباتها. فمشاهدة الجزء الثالث من سلسلة «قبل...» سيكون تجربة غير مكتملة تماماً من دون مشاهدة الفيلمين اللذين سبقاه. في المقابل يحتفظ «صِباً» بكينونة خاصة مُتفردة، لكن الجهل بظروف إنتاجه، لا يُمكن الا أن يُضعف تقبله، لذلك يكون إشراك المتفرج بأسرار الفيلم أمراً أساسيّاً. فرغم إن الفيلم يُقدم قصة مُتخيلة، الا إن إنجازه الخاص بالتصوير طوال كل تلك السنوات، جعله أقرب بروحه الى التسجيلي منه للروائي، أي يكاد أنه يكاد يكون عملاً عن الممثلين أنفسهم والتغييرات التي أصابتهم. وهذا لوحده، يُمكن أن يُعد أحد إنجازات هذا الفيلم العديدة.