هل للولايات المتحدة رؤية أو سياسة محددة تجاه الحرب الدائرة في سورية؟ سؤال يبدو أن الكثيرين منشغلون في محاولة الإجابة عنه وتفسير أسباب ما بات يعرف بالإحجام الأميركي عن التورط في هذا الملف. هذه الحيرة مشروعة، لا سيما إذا كنا نتحدث عن أزمة، قد تختصر إشكالية منطقة المشرق ومحيطها القريب. ومن نافل القول إن هذه المنطقة ستظل تحظى بموقع ومكانة لا يمكن التفريط بهما، خصوصاً إذا نظرنا إليها من زاوية المصلحة الأميركية. وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي جعل واشنطن تبدو بهذا الموقف من عدم اليقين، سواء كنا نتحدث عن مركز القرار فيها أو عند حلفائها؟ إحجام إدارة الرئيس باراك أوباما عمّا يوصف بأخذ المبادرة والفعل، ليس جديداً أو فريداً في تاريخ السياسة الأميركية الخارجية. لطالما عايشت الولاياتالمتحدة رؤساء ديموقراطيين فضلوا الانكفاء في السياسة الخارجية لمصلحة القضايا الداخلية. كانت هذه حال الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، الذي بقي ملتزماً سياسة الحياد وعدم التدخل قبيل بدء الحرب العالمية الثانية وبعدها، على رغم عشرات التظاهرات ومئات الدعوات التي طالبته بالتدخل من أجل حماية اليهود الذين كانوا يتعرضون لمجازر النظام النازي. إذاً، حتى اليهود لم ينجحوا في إجبار الرئيس الديموقراطي حينها على التزحزح، حتى تعرضت «بيرل هاربور» لهجوم اليابان الصاعق. فهل يحتاج أوباما إلى بيرل هاربور جديدة ليخرج من صومعته؟ لا الزمان ولا المكان ولا الظروف أو المعطيات تشي بهذا النوع من التخمينات، أضف إلى ذلك أن أوباما الذي يتحدّر ثقافياً وأيديولوجياً من مدرسة لا عنفية يسارية بالمعنى الواسع للكلمة، يكرر على الدوام أنه لن ينهي عهده بالتورط في ما وعد بإنهائه حين رشح نفسه للرئاسة الأميركية. إذاً، لا تورط أميركياً جديداً في حرب أخرى، خصوصاً في منطقة الشرق الأوسط. ولم يعد خافياً أن أوباما وقف في مواجهة أركان إدارته، لا سيما في نهاية ولايته الأولى، وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومدير ال «سي آي أي» ديفيد بترايوس ووزير دفاعه ليون بانيتا ورئيس هيئة أركان الجيوش الاميركية مارتن دمبسي وغيرهم، على ما نشر، طالبوه بتقديم الدعم والمساعدة للمعارضة السورية. وأصر أوباما على التمسك بسياسة «رفع اليد» أو «الاستقالة» إذا ما أعطيناها صفة أكثر راديكالية، وهذه ليست بالضرورة «لا سياسة» بل تهدف الى عدم توريط أميركا بنزاعات جديدة في حين تسعى إلى إنهاء حروبها السابقة. يقترح بعضهم قراءة السياسة الأميركية، لا سيما تجاه سورية، عبر العودة إلى مراحل سابقة لمحاولة تفسيرها. هناك من يتهم أميركا وعن وجه حق بأنها رعت النظام السوري وحافظت على تواصلها معه قبل وخلال وبعد اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975 وحتى عام 1990. لم يكن قد مضى على استيلاء نظام الأسد الأب على الحكم في سورية أكثر من أربع سنوات ونيف حين دخلت قواته لبنان، لوقف ما اعتبر في تلك المرحلة تقسيم لبنان وصهينته وللحفاظ على بنية الدولة ووضع حد لفلتان الثورة الفلسطينية فيه. ولم تكن حينها المباركة الإسرائيلية والأميركية للجيش السوري ولدوره في لبنان خافية على أحد، على رغم كل الانتهاكات والفظاعات التي ارتكبها بحق الجماعات اللبنانية، بدءاً بالحرب على السنّة والفلسطينيين على السواء عام 1975 وبحرب صيدا عام 1976 أو بحرب طرابلس في الثمانينات مروراً بالتصفيات في جبل لبنان إلى مجزرة ثكنة «فتح الله» ضد مقاتلي «حزب الله» في الخندق الغميق إلى حرب زحلة والأشرفية وحرب الإلغاء والتحرير وغيرها. لكن، ما لا يمكن تفسيره حتى الساعة، هو التغاضي الأميركي عن الدور السوري في السماح للإيرانيين بالتمدد نحو منطقة البحر المتوسط وتمكين حزب الله في لبنان منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي، إضافة إلى تمكين وتسهيل دور القوى المشتركة الإيرانية - السورية في خطف الأجانب وقتل السفراء في لبنان في الثمانينات والتفجيرات التي حصلت ضد السفارة الأميركية في بيروت كما ضد مواقع المارينز والقوة الفرنسية، وصولاً إلى الدور السوري في إجهاض اتفاق 17 أيار (مايو) بعدما ربطت إسرائيل انسحابها بانسحاب سورية، ما أدى إلى تعطيل الاتفاق وعودة الهيمنة السورية على لبنان. ولعل حرب العراق إحدى أبرز المحطات السياسية التي لا بد من التوقف عندها لقراءة تطورات الموقف الأميركي من النظام السوري بعامة ودوره في تلك الحرب، خصوصاً بعد تبخر مفاعيل تحذيرات وزير الخارجية كولن باول خلال لقائه الرئيس بشار الأسد في دمشق عام 2003. نجحت سورية مع شركائها وحلفائها وحتى بعض الأنظمة العربية المتواطئة معها في تلك المرحلة، في صد ما وصفته ب «الهجمة الأميركية» التي كان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش يقودها في المنطقة، وسمحت بمرور المسلحين والأسلحة إلى طرفي النزاع، السنّة والشيعة، مقوضة كل الفرص لقيام دولة ديموقراطية في العراق ولإحلال الأمن والسلام على أرضه. وها هي تداعيات الحرب السورية تتمدد نحو العراق، علماً أن هذا البلد هو «نظرياً» حليف واشنطن، فيما يلعب عملياً دوراً ليس فقط سلبياً بل مشاركاً في سياسات الأسد نفسها بعد أن تمكنت طهران من القبض عليه أيضاً. وحتى الأمس القريب، كان نظام الأسد أحد أبرز المسؤولين عن عرقلة جهود تسوية القضية الفلسطينية وتخريب الوحدة بين الفلسطينيين أنفسهم. ليس فقط بين حركتي فتح وحماس، كما هي الحال الآن، بل أيضاً على مستوى تاريخ علاقة الفصائل الفلسطينية ببعضها منذ بداية السبعينات وحتى الأمس القريب، وصولاً إلى محاولة تقويض السلطة الفلسطينية ورعاية ما كان يعرف بحلف «الممانعة» الذي تقوده إيران عبر وكلائها. إذا كانت هذه السلبيات غير كافية لإعادة النظر في الموقف من النظام السوري، فما هي العوامل الوازنة التي أبقت واشنطن في حال من التردد تجاه حسم تعاملها مع مستقبل هذا النظام؟ هناك من يقول إن واشنطن تخشى هي والغرب سقوط نظام الأسد بسبب عدم توافر البديل. وهذه كانت حال فرنسا أيضاً خلال حكم الرئيس فاليري جيسكار ديستان في السبعينات وبعده الرئيس جاك شيراك وصولاً إلى الرئيس نيكولا ساركوزي الذي كان أول من استقبل الرئيس بشار الأسد بعد «فك» طوق العزلة عنه قبيل تعيين السفير الأميركي الجديد روبرت فورد في دمشق. هناك عوامل عدة ينبغي العودة إليها لقراءة أسباب التردد الأميركي: أولاً: واشنطن متفقة مع إسرائيل في معظم مواقفها في المنطقة. تل أبيب ترى أن سقوط الأسد قبل توافر البدائل الموثوقة قد تكون له تداعيات سلبية عليها. وهنا، لا بد من التساؤل عما إذا كان دور النظام السوري خلال الأربعين سنة الماضية إيجابياً أم سلبياً تجاه إسرائيل التي يتبين اليوم أن سياستها في الإبقاء على اشتباك محدود مع طرف يمكن احتواؤه أفضل من سلام مع طرف لا قدرة على التحكم في خياراته بعد. ثانياً: هناك نظرية تقول إن الحرب في سورية تستنزف إيران وحلفاءها وميليشياتها الشيعية اللبنانية والعراقية وكذلك الأطراف الأصولية السنّية الأخرى بعدما تحولت سورية إلى ساحة حرب، ما يؤدي إلى إضعافهم جميعاً. ثالثاً: هناك من يرى رغبة أميركا في القضاء، خلال هذه الحرب، على الجيش السوري بعامة وما لديه من صواريخ وأسلحة استراتيجية وكيماوية. ويذكّر البعض بأن الجيش العراقي لم تقم له قائمة حتى اليوم كجيش استراتيجي، فضلاً عن أنه لم يتمكن من بناء سلاحه الجوي أيضاً. رابعاً: محاولة تحييد إيران وإشغالها في حرب تستنزفها لسنوات، بما يعطل دورها، سواء في تهديد جيرانها الخليجيين أو حتى مجرد التفكير في التأثير في أسعار النفط العالمية عبر التهديد بإغلاق الممرات المائية مثلاً... ناهيك عن إشغالها في ملف يمنعها من التفرغ لبرنامجها النووي. خامساً: انتظار وضوح النتائج السياسية والاقتصادية والأمنية لما بات يعرف بالربيع العربي الذي طاول ليبيا وتونس ومصر لا سيما تجربة «الإخوان المسلمين» في مصر التي لا تزال تداعياتها الإقليمية غير واضحة، ذلك أن حال الحذر والإحباط التي أصابت الرأي العام العربي والدولي مما آلت إليه تلك الثورات، فرضت مراجعة عوامل الربح والخسارة، فضلاً عن التدقيق في هوية «الوافدين» الجدد إلى الحكم ونوع التحالفات والعداوات التي بدأت في التشكل في طول المنطقة العربية وعرضها ومحيطها. لقد بدا أن النظام السوري كان يؤمن مصالح قوى عدة ومختلفة، ما أدى إلى كل هذا الارتباك عندما بدأ يتهاوى، بل جرى غض النظر في شكل مريب الى حد التجاهل عن المجازر التي يرتكبها النظام منذ أكثر من سنتين، على رغم استعماله سلاح الطيران والصواريخ الباليستية وحتى استخدامه ولو استخداماً محدوداً السلاح الكيماوي الذي قد يكون على سبيل اختبار ردود الفعل ليبني على الشيء مقتضاه. ولا بد في هذا السياق من التذكير بما قال «مصدر أمني كبير» لصحيفة تايمز البريطانية: «إن مصلحة إسرائيل هي في بقاء نظام بشار الأسد (باعتبار أن الشيطان الذي نعرفه أفضل من الأشباح التي لا نعرفها) وأن وجود نظام ضعيف ومستقر أفضل من نظام قوي وغير مستقر». كما، وحتى الساعة وعلى وقع تسليم روسيا صواريخ متطورة إلى سورية، تبقى هموم إسرائيل أن لا تتسرب الصواريخ إلى «حزب الله» وليس وجودها بحوزة النظام الذي يحمي «حزب الله» ويرعاه. عجيب أمر هذه السياسة الإسرائيلية! إذا كانت تلك هي أسباب تردد الإدارة الأميركية، فمن الصعب تصور خروجها عن ثوابت لن تسمح لها بالمساومة على بقاء الأسد أو إعادة تعويمه. وما جرى خلال الأسابيع الأخيرة، خصوصاً مع تجدد الدور الإسرائيلي في الأزمة السورية، ولو من باب مصالح تل أبيب، يشي بأن أمراً أميركياً يجرى تنفيذه تباعاً، لفرض إعادة حسابات على أكثر من طرف، وبأن الأسد أصبح خارج المعادلة. * إعلامي لبناني