عاد زياد الرحباني إلى بلدة أنطلياس التي شهدت انطلاقته قبل أربعين عاماً، مثلما شهدت انطلاقة الرحبانيين، عاصي ومنصور، قبل ستين عاماً، وهما أقاما فيها معظم حياتهما. وعودة زياد إلى هذه البلدة المتنية الرابضة شرق بيروت كان لها أكثر من معنى. إنها أولاً عودة زياد إلى البلدة الرحبانية، بلدة الجد والأب، التي كان هجرها في مطلع الحرب الأهلية إلى بيروت الغربية، مؤثراً الانضمام إلى حركة اليسار اللبناني هرباً من الاحزاب اليمينية. وهي ثانياً عودة إلى كنيسة مار إلياس (النبي إيليا) التي شهدت إحدى أولى إطلالاته الموسيقية، فتى موهوباً في الخامسة عشرة، يؤلف ويلحن ويوزع. في هذه الكنيسة أسس زياد حينذاك جوقة، وراح يبثّ روحاً جديدة في التراتيل وطريقة أدائها، مرفقاً إياها بالعزف الحيّ الذي لم يخل من آلات الإيقاع الغربي الصاخب في أحيان. ولم تمضِ أشهر حتى انطلق زياد والفرقة ب «قداس الشباب» الذي شاعت تراتيله في الأوساط الشبابية السبعينية التي كانت تعيش حالاً من التحرر والانعتاق. إلّا أن صاحب «نزل السرور» ما لبث أن أصيب بعدوى اليسار الذي بدأ يروج شبابياً في بيروتالشرقية، على رغم إيمانه، بل مسيحيته المعتدلة والعلمانية. فهو كان ألّف ديواناً يضم قصائد روحيّة وملتزمة، يخاطب فيها خالقه الذي أحلّه محلّ الصديق، متألماً مع المتألمين، وآملاً مع المنتظرين، أن يحل فجر الخلاص وتشرق شمس العدالة. ثمّ هجر زياد أنطلياس وبيروتالشرقية وأقام في بيروت الغربية بعدما وجد نفسه هناك في قلب اليسار حالماً بثورة الفقراء والمقهورين، ومتطلعاً إلى غد مشرق ورغيد، لم يكن له أن يأتي. بعد أربعين عاماً من «الهجرة» عاد زياد إلى الكنيسة التي انطلق منها في أنطلياس، مسترجعاً التراتيل التي كان لحّنها ووزّعها وأدّاها مع الفرقة عام 1973، ليعيد تقديمها في صيغة جديدة، أشدّ تبلوراً واحترافاً، واستعان بأصوات أخرى حديثة وشابة. وحملت الليلة التي أحياها في الكنيسة الأربعاء الفائت عنواناً لافتاً جداً وهو «تراتيل زياد الرحباني» وكأنه مؤلف موسيقي كنسي، معروف في هذا الحقل. لكنّ ألحانه هذه عرفت - وتعرف - نجاحاً كبيراً في الكنائس والرعايا وبخاصة في وسط الشباب، وغدا الكثيرون يجهلون أنها من تأليف زياد، هم الذين لم يتصوروا أنهم يرتلون صلوات لحنها الفنان اليساري والشيوعي والخائن، كما سمّاه اليمين خلال الحرب. واللافت أن زياد لم ينقطع بعد انتقاله إلى الغربية عن بعض الكهنة من أصدقائه، ومرة طلب أحدهم منه أن يلحن للكنيسة نشيدين (نشيد القربان ونشيد المناولة) فلبّى بسرعة، عاهداً إلى الشاعر «اليساري» جوزف حرب مهمة كتابة النشيدين اللذين منحهما أجمل الألحان. لعل عودة زياد إلى الكنيسة وإحياءه أمسية التراتيل على منبرها، كانا بمثابة حدث مزدوج: حدث رحباني فني، وحدث رحباني سياسي لئلا أقول «مسيحياً». الأمسية كانت راقية جداً فنياً، أداء وتوزيعاً موسيقياً وعزفاً، وهي تعدّ واحدة من التحف الغنائية، وتستحق أن تصدر في أسطوانة مثلما صدرت التراتيل نفسها من قبل في أسطوانة باتت نادرة. أما سياسياً فهي مثّلت حال الانفتاح الذي يعيشه زياد اليوم، هو الذي ما زال محسوباً على اليسار بعد سقوط المرجعية اليسارية القديمة في العالم، وانهيار جدران المعسكر الاشتراكي وصعود إمبريالية جديدة هي الإمبريالية الروسية. ويحلو لبعض اللبنانيين أن يصنفوا زياد في خانة أنصار حزب الله بعد إشادته بزعيم هذا الحزب السيد حسن نصرالله وبالمقاومة، مع العلم أنّ المقاومة فقدت أخيراً ذريعتها بعد أن وقعت في فخّ البعث السوري وراحت تسانده في تدمير سورية - التي ليست إسرائيل - وفي قتل الشعب السوري وتهجيره. وزياد هو أولاً وآخراً حرّ في خياراته، حتى وإن انقسم جمهوره حول هذه الخيارات. ولعل حفلة الكنيسة أخيراً أثبتت انّ جمهوره المسيحي ما زال يحبه كثيراً وينتظر أي إشارة منه ليذهب إلى لقائه، أين ما كان هذا اللقاء.