هذا الأسبوع في أحد أيامه يمرح طيف لرجل من رجال الثقافة العربية المعاصرة.. هذا الرجل هو عاصي الرحباني. لطالما ارتبط اسمه عندي بكتاب "الإنسان يعصي لهذا يصنع الحضارات" (1972) للمفكر عبدالله القصيمي. وضع مفكرنا مؤلفه ليمجد إرادة الإنسان في التغيير، فهو يقول "إن عصيان الإنسان هو تخطي ما كان، هو تخطي قدر الطبيعة". ويفرق بين الإنسان والحشرة باعتبار الأخيرة كائنا مسيرا تماماً بينما الإنسان منح النجدين فهو يختار طريق إعمار حياته. الإنسان هو الإرادة هذا ما شغل فلاسفة القرن العشرين بقدر ما كان اليأس يعمر هؤلاء الفلاسفة، وهي طبيعة المأساة إلا أن الإرادة هي سيدة الطموح. لقد كان عاصي الرحباني من سادة الطموح، وكما قال هو نفسه ان :"الفن ابن الصعوبة". إذن، فهو يتحدى المستحيل. لم يكن الغناء في بيروت إلا نتاج فكر وعادات وتقاليد وأعراف أنهكتها السنون البائسة. بيروت كانت تجر الثرثرات المغولية والترجيعات العثمانية. لقد دفن التاريخ الكثير من هؤلاء الفنانين الذين لم يفكروا بالمستقبل ولو فكرة. بل اختاروا أن يكونوا أبناء الماضي وبناته. بعض من تلك الحناجر ترك الظل عليها ما ترك وأماتها رغم أن بعضها عاش معمراً.. ذهبوا ولم نحبهم لأننا لم نعرفهم! جاء العاصي ليجعل من الغناء موقفاً أخلاقياً التزم القيم: الحق والحب والجمال والعدالة والحنان. لطالما قال الأخوان الرحباني، وربما اكتشف ذلك من كان حواليهما أنهما توجها بفنهما إلى الله والوطن والإنسان. هذا العاصي الذي كان شرطياً تعلم وكتب وعرق ونزف كثيراً.. صنع الكثير وذهب.. أمسك عصا الدرك وانتهى بعصا المايسترو.. هذا الذي نقل تاريخ الغناء في لبنان ودفع به إلى مائة عام نحو المستقبل بعد أن كان متخلفاً يجر ذكرى القرون الوسطى وصدمة الانبهار بالنموذج الأوروبي (الفرنسي تحديداً). لقد صنع هو وأخوه منصور الرحباني (1929-2009) قلعة رحبانية أنتجت عبر الوسائل المتاحة لنقل الإنتاج الفني من الأسطوانات إلى الإذاعة والمسرح وإلى التلفزيون والكاسيت.. لقد تعلم الأخوان بطريقين: نظامي ومستمر ومتقطع أيضاً. أحد عشر عاماً تابعا تعليمهما من النظريات الموسيقية والتعرف على التراث الموسيقي العربي بين العهد المغولي والعهد العثماني عند الأب بولس الأشقر، ولا يمكن أن يغفل تلقيهما وتأديتهما التراتيل بحسب الطقس الماروني والأرثوذوكسي بالإضافة إلى تلقيهما دروساً نظرية في التأليف والعزف عند إدوار جهشان في أكاديمية الفنون (مؤسسها ألكسي بطرس)، ودروساً مماثلة أخرى عند برتران روبيار مدرس الرياضيات في جامعة القديس يوسف. قدما أعمالاً منها اسكتشات إذاعية (منذ 1949)، ومسرحية (1957 -1984)، ومنوعات تلفزيونية (1963)، وأفلام سينمائية (1965-1967). عمل هذان الأخوان طويلاً وتدربا واكتسبا خبرة في الكتابة الشعرية والمسرحية والموسيقية. لقد كتبا الوطن والصوت والحب. وقعا باسم واحد ترسما ما كان عليه الأخوان فليفل. اندمجا حتى لم يعد أحد منهما يذكر أين كتب مقطعاً، وأين لحن جملة وأغنية، وأين ألف موسيقى وفاصلاً، وأين نقح نصاً وحواراً، وأين عدل درجة وميزاناً.. جاءت فيروز من بين يدي الأخوان فليفل إلى حليم الرومي الذي دفع بها لتكمل الثالوث الغنائي الكبير. كتب عاصي فيروز مثلما كتبته هي. لا أبلغ من عبارة فيروز إنه "لا يعرف المستحيل"، وأبلغ منها تلك النظرة عندما صار اللاوعي هو المسيطر على أعصابه وسلوكه من بعد الجلطة الأولى 1972 حيث وقف ليقود ويدير الفرقة من فوق مسرح الأولمبيا الباريسي عام 1979 لكنه يجانب الفرقة ليتابع فيروز في كل أغنية. عاصي فتنته فيروز. إنها الأيقونة العاصية التي تملَّكها وما تملّكها. مثلما هي تملكه ولا تملكه. حتى زياد لم يملك أحداً منهما لم يتملكاه ولم يتملكهما. كانت تغني على المسرح أغنية تصف مشهد اللقاء الأول في شتاء من خمسينيات القرن الماضي حيث جاءت إليه في هواجسه الباكرة لتبلغه بحب العمر تلك الغريبة بالرسالة ذات الحروف الضائعة ولكنها وجدها حروف فيروز.. الرسالة لم تنمحِ.. الرسالة كانت: "حبيتك بالصيف حبيتك بالشتي وعيونك الصيف وعيوني الشتي ملقانا يا حبيبي.. خلف الصيف وخلف الشتي" بعد عاصي تغير الكثير واستمر الكثير.. لكنه باق مثل نهر العاصي لم يغير مجراه..