الميدان يعشق «تمرد». أجواؤهم شبابية، وحركتهم سريعة، ودمهم خفيف، وأفكارهم فريدة. لكن الشارع يميل إلى «تجرد». أجواؤهم «بتاعة ربنا»، وحديثهم معضد بآيات من الذكر الكريم والحديث الشريف، وعقولهم راجحة، وأفكارهم هي تلك التي نشأ عليها المصريون في القرى وتربوا عليها في مدارس الحكومة وحضهم عليها شيخ الجامع. فعاليات الفريق الأول المتمرد تنجح في رسم بسمة وعلامة استفهام غير معروفة السبب وغير واضحة المعالم على الوجوه، في حين تثير تحركات الفريق الثاني المتجرد ملامح الجمود والخشوع على الوجوه لأسباب غير واضحة أيضاً. لكن يمر شباب «تمرد» من الميدان وينجحون في إقناع كثيرين بتوقيع استمارات سحب الثقة من الرئيس محمد مرسي لتتبخر الابتسامة وكأنها لم تكن. وفي الشارع يستمع المواطنون بتركيز شديد لحديث شيخ متجرد يقنعهم بتثبيت الثقة في الرئيس ثم يمضي في طريقه، ويمضون هم في طريقهم، وكأن تجرداً لم يكن. وهذه هي المشكلة، ف «تمرد» أسعدتهم لبضع دقائق شعروا خلالها أنهم مازالوا على قيد الحياة، و «تجرد» ذكرتهم بنيران جهنم وعذاب القبر فسرت فيهم رجفة خفيفة سرعان ما توقفت مع رحيل الشيخ المتجرد. الخناقة الدائرة في مصر هذه الأيام هي حلقة جديدة في مسلسل الشد والجذب أو الهجوم والمقاومة أو محاولات الإطباق وجهود الفرار بين الإسلاميين وغير الإسلاميين في مصر. شبان وشابات وناشطو وناشطات «تمرد» لا يدغدغون مشاعر المتمردين بأحاديث دينية عن الثواب والعقاب، ولا يخاطبون فيهم روح المسلم الحق الذي لا يرضى بعمل يغضب الله سبحانه وتعالى... هم يدخلون في صلب الموضوع من دون مقدمات دينية ويخوضون في سرد مجريات الأمور في عشرة أشهر قتل فيهم من قتل، وزاد فقر من زاد، وفقد عمله من فقد، وتحول المرور إلى غابة، وتحور الفراغ الأمني إلى أمر واقع، وفشل الرئيس فشلاً ذريعاً في إدارة شؤون البلاد وأخفق في تسيير أمور العباد. كلماتهم تدق على أوتار كل مصري فاض به الكيل أو كاد من غلاء فاحش، أو انفقأت مرارته أو أوشكت من وعود رخاء تتبخر في الهواء، أو ذابت حبال الأمل التي تعلق بها أو كادت تحت وطأة تخبط نظام الحكم. لكن يشفع لتخبط نظام الحكم أنه نظام ملتح يحمل سجادة صلاة ويصلي الفجر على وقته ويرتدي الجلباب بين وقت وآخر، فعاطفة المصريين منذ القدم جياشة ومتفجرة تجاه كل ما يمثل الدين، ونظام حكم «الإخوان» ليس استثناء، بل يمكن القول إنه منذ وصوله إلى سدة الحكم انعكاس لما تجيش به صدور المصريين تجاه الدين. ولأن ورقة الدين رابحة لمن يلعب بها، فإن التهمة الأولى سابقة التعليب التي واجهت «تمرد» والقائمين عليها لم تكن الخروج على القانون أو خرق الدستور أو تعطيل المرور، بل كانت مخالفة شرع الله، بل والتشبه ب «إبليس» في تمرده. وبين اتهام بمحاكاة إبليس وتمرده واحتكار لشرع الله وتفسيره، يجد المواطن المسكين نفسه حائراً يائساً بين هذا وذاك. المحلل السياسي معتز بالله عبدالفتاح لخص اللبس القائم في المشهد السياسي المصري عبر تغريدة وصف فيها «تمرد» بأنها «روح في حاجة إلى جسد ورأس»، و «غيرهم» بأنهم «رأس بلا روح أو جسد»، فروح «تمرد» الشابة الحماسية الناقمة على الظلم والكارهة للكذب والمعارِضة للتدليس تنضح بالحياة، وهي كما وصفتها الناشطة والإعلامية بثينة كامل «تمرد على الظلم في مقابل تجرد من الضمير»، وهي «حلم بغد أفضل بعيداً من أمواج ركوب الثورة». لكن يظل ال «تمرد» حلماً وليس خارطة طريق. ورغم ذلك، فإن هذا الحلم يداعب قلوب الملايين ممن أعياهم الواقع وعقولهم. وهذا إن كان يعني شيئاً، فهو ليس نجاحاً ل «تمرد» بقدر ما هو مقياس لدرجة اليأس الشديد التي تمكنت من المصريين والتي تدفعهم إلى التعلق بحلم غير واضح المعالم وغير محدد الوجهة. وعلى النقيض وجهة الإسلاميين واضحة محددة، فالعمل يجري على قدم وساق بغض النظر عن الظروف المحيطة. الصكوك باتت قانوناً، ومحور تنمية قناة السويس بات مشروعاً، والوقود في طريقه للخروج من منظومة الدعم، والوزارات تركض على هوى الجماعة، والمحافظات تئن من ضغط حزبها الحاكم «الحرية والعدالة». هذه الرؤية الواضحة والخطة الثاقبة لا تنتقص من جهود تشويه المعارضة، فإذا كانت «تمرد» حصلت على ثلاثة ملايين توقيع، فإن «تجرد» ستحصل على 15 مليوناً. وإذا كانت «تمرد» تعمل على سحب الثقة من الرئيس لأن داعميها فشلوا في الانتخابات ولا وجود لهم في الشارع، فإن «تجرد» تؤكد على الثقة في الرئيس لأن داعميه نجحوا في الانتخابات ومتغلغلين في كل ركن من أركان الشارع. ومثلما تم الرد على «جبهة الإنقاذ» ب «جبهة الضمير»، فإن نظام الحكم بأذرعه المتعددة بدءاً بالرئاسة ومروراً بحزب الغالبية وحلفائه من الأحزاب الدينية وانتهاء بأذرع المعارضة المدجنة التي صنعها، جاهز للرد على «تمرد»، إن لم يكن بالتشويه ووصف ناشطيها بأنهم «شباب عبثي» و «مجموعة فاشلين»، فبالسخرية ومحاولة التشبه ب «بني ليبرال» في حسهم الفكاهي ووصفهم ب «تشرد» أو «تفسخ» أو «ترهل»، أو بالتكفير واتهامهم ب «الخروج على شرع الله» و «الدعوة إلى الخراب والدمار وهو ما يمثل خروجاً على الشريعة». وبعيداً من حماسة الشاب المتمرد ومهاترات الشيخ المتجرد ومضي النظام قدماً في التمكين ودعم الحلفاء الحاليين في مشروع الدولة الدينية وتشرذم المعارضة بين أحزاب أكل عليها النظامان القديم والحالي وشربا، وأخرى وليدة تتكاثر وتتوالد على مدار الساعة... يلتقي الجميع في خانة واحدة، ألا وهي خانة المستقبل، فما بعد «تمرد» وما وراء «تجرد» يجد 92 مليون مصري، بين متمرد ومتجرد ومترفع، أنفسهم محبوسين في سيارة الوطن المنطلقة بأقصى سرعة من دون وجهة محددة.