نهار داخلي. تمسك الفتاة بسماعة الهاتف الأرضي، وتتصل برقم. يأتي صوتها ناعماً وواثقاً ومستفسراً: «آلو؟» يرد الطرف الآخر أجشاً ومتعجلاً ومستنكراً: «وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته! نعم؟!». يأتيه الصوت الناعم مجدداً: «بليز لو سمحت، أجيب استمارة حملة تمرد لإسقاط الإخوان من أين؟». الصدمة تلجمه تماماً، وفجأة يتحول النهار الداخلي إلى ليل خارجي حيث رعد وبرق وأعاصير ورياح، فيهتف بصوت جهوري: «هل جننتم؟! من أتى به الله سبحانه وتعالى لا يسقطه تمرد». صدى الصوت يردد كلمة «تمرد» عشرات المرات، ليلتقطها أحد رموز الحكم الفاعلين، فيضحك ضحكة مسرحية جهورية مفتعلة ويقول مستهزئاً: «هه! خليهم يتسلوا». يظن حامل الحقيبة أن سيده يطلب ترفيهاً، فيدير مؤشر المذياع لينطلق صوت المطرب عمرو دياب صادحاً: «هاتمرد على الوضع الحالي وفي بعدك عمري هيحلا لي». لكن ما يحدث على أرض الواقع هو انتقال «تمرد» من ابتكار شبابي وإبداع احتجاجي إلى شوكة في حلق النظام وصداع في رأس الحلفاء ونقلة نوعية في المواجهة بين السلطة وأعوانها من جهة والمعارضة والكنبة من جهة أخرى. هذه النقلة، رغم إبداعاتها المتتالية من تظاهر بالدراجات النارية وقبلها برفع الملابس الداخلية وبعدها بمسيرة «نحمل البيض للقصر»، لم تؤثر إيجاباً في خيال الحكم الإبداعي والابتكاري، بل ظل على نهجه في استنساخ سبل المعارضة بعد عكسها، ف «جبهة الإنقاذ» تواجهها «جبهة الضمير» لتمثل دور المعارضة المولودة من رحم السلطة، وال «بلاك بلوك» المناهضين ل «الإخوان» قابلتهم «هوايت بلوك» الإسلامية. وحملة «تمرد» لجمع توقيعات لسحب الثقة من الرئيس محمد مرسي تأتي مصحوبة بحملة «تجرد» الإسلامية لتأكيد الثقة في الرئيس نفسه. وسواء تأكدت الثقة في الرئيس أو سُحبت منه، يظل مكمن العبقرية المصرية الحقيقية والذكاء الفطري الواضح بالعين المجردة هو ذاك الذي يجعل أدهم يسأل ببراءة غير مصطنعة: «لا أفهم! تمرد وتجرد، أيهما الحكومة وأيهما المعارضة؟». وإذا كان البسطاء لا يعون الفرق بين الدولة وبين الحكومة، ربما لأن الأخيرة اعتقدت أنها حصلت على حق احتكار الدولة، فإن نظام الحكم مازال عاجزاً عن التسليم بقضاء الله، ومواجهة حقيقة أنه بات في الحكم ولم يعد في المعارضة. فالإصرار على لعب دور الطيب والشرير، والجمع بين البطولة المطلقة والبطولة الثانية، والإصرار على القيام بالشيء وضده، والتصميم على أن يكونوا الحكم والمعارضة في آن دفعت بعضهم للاعتقاد الساخر بأنهم ربما غير واثقين من البقاء في «الحكم»، ويريدون الإبقاء على «المعارضة» خوفاً من زوال الحكم. زوال حكم «الإخوان» يخيف كذلك السلفيين الذين يعتبرون أنفسهم مكوناً أصيلاً من مكونات المشروع الإسلامي الذي يخشون إجهاضه إذ إن ذلك يعني تأخير حلمهم في الوصول إلى سدة الحكم وهم الواقفون في طابور السلطة والمؤيدون لحكم «الإخوان» رغم الفروق والاختلافات الجوهرية والعقائدية. وإذا كانت المعارضة مكملاً لمشهد الحكم في الدول الحديثة التي لا تستوي حياتها السياسية من دون وجود هذا وذاك، فإن المعارضة في مصر شر ينبغي التخلص منه لتسوية الأمور وتهدئة الأوضاع وطمأنة العباد. فبين رمز من رموز الحركات السلفية يناشد الرئيس «عدم الالتفات إلى المعارضة والمضي قدماً في طريقه» إلى مؤكد أن كل ما يجري في الشارع من احتجاج وغضب و «تمرد» إنما هو «تفاهات وسخافات وهرطقات»، إلى «أم شيماء» المشاهدة المزمنة التي تمطر قناة «الجزيرة مباشر مصر» برسائل نصية قصيرة على مدار الساعة تطالب «الريس مرسي بأن يضرب بيد من حديد على أولئك المعارضة الفلول»، تتحد قوى الحكم وداعموها لمجابهة من تجرأوا على المعارضة. ولا تخلو محاولات المجابهة من لمسات ابتكار طفيفة وهبات إبداع عابرة تجسدت في دعوة الناشط «الإخواني» الشهير أحمد المغير إلى سحب الجنسية المصرية من أعضاء حركة «تمرد» عبر تغريدة ساخرة كتبها هدفها تشويه الحملة والمشاركين فيها. إلا أن ما تبقى من ردود فعل الإسلام السياسي على «تمرد» اجترها أصحابها من قسم الاتهامات الجاهزة، ف «تمرد» يقودها «فلول» وتمولها «الثورة المضادة» ويشعلها «أعداء الوطن» ويؤججها «دعاة الخراب» ويفعلها «أنصار الفتن»، وهي «حركة تخريبية» أزعجها «محصول القمح الذي قارب الاكتفاء الذاتي» وأغضبها «تحقيق معظم أهداف الثورة» وأرّقتها «النهضة الشاملة الحادثة على أرض مصر». النهضة الشاملة الجاري تحميلها في مصر فيها كثير من الدروس التي تستفيد منها المعارضة، ومنها حركة «تمرد». فجزء كبير من إقناع المواطنين بأن نهضة تحققت وتقدماً أُحرز يكمن في العامل النفسي والأجواء المحيطة، وهو ما أبدع فيه محبو الجماعة وحلفاؤها افتراضياً. ودعا ذلك القائمين على أمر «تمرد» والداعمين لفكرتها إلى نقل ال «نو هاو» من الجماعة بغرض تعميم الاستفادة، فتم غمر الفضاء الإلكتروني بأخبار تغريدية وتدوينات «فايسبوكية» عن التجمعات الضخمة التي تسد شوارع المدن لمواطنين مقبلين على توقيع استمارات «تمرد»، وسائق الأجرة الذي طبع مئة استمارة على نفقته ووزعها على أصدقائه، والحراك الشعبي في الميادين والشوارع والحارات الذي أحدثته «تمرد»، والملايين التي تم جمعها، فمن مؤكد أنها مليونا توقيع، إلى ملوح بأنها تعدت حاجز الثلاثة ملايين، إلى آخر معلناً أن 15 مليون توقيع سيتم تقديمها في قصر «الاتحادية» في 30 حزيران (يونيو) المقبل هدية للرئيس لمناسبة إكمال عامه الأول على كرسي الرئاسة. «تمرد» أحدثت حراكاً في الشارع وأعادت ضخ دماء شبابية إلى المشهد المتحجر وأيقظت قرون استشعار «الإخوان» وحلفائهم وأعادت تدوير الاتهامات المعلبة سابقة التجهيز ودفعت «كنبويين» إلى أن يبرحوا «كنباتهم» لسحب استمارات وتوقيعها علّها تحقق ما يحلمون به وهم قابعون على «الكنبة»، وأوغلت صدور الجماعة ومحبيها بإطلاق حملتي «تجرد» و «مؤيد»، لكنها أيضاً طرحت السؤال الوجودي الذي ألب مواجع وضع كلمة «النهاية» أمام ثورة ال18 يوماً بترك ميدان التحرير عقب الاحتفال بخطاب التنحي، ألا وهو «وماذا بعد؟».