الأميركيون والروس متفقون فحسب على ألاّ يختلفوا، ورغم اختلاف الرؤى والأهداف فإنهم مصممون على ألاّ يختلفوا على سورية، أو على إيران النووية. أما بشأن طموح روسيا للهيمنة على جورجيا أو لتأخير نشر الدرع الصاروخية في أوروبا وتعطيله، فالخلاف ممكن وحاصل. بالنسبة إلى سورية، تُركت موسكو تبيع كل الأسلحة الفتاكة والمدمّرة، ملوّحة بأن القانون الدولي لا يمنع توفير ما يلزم لأي نظام مجرم كي يقتل شعبه، فمهمة تاجر السلاح أن يشجع على القتال، بل أن يؤججه لا أن ينهيه. ومُنحت موسكو مسبقاً اعترافاً بمصالحها في سورية وإمكان التمدد إلى لبنان وحتى مغازلة العودة إلى مصر من خلال محور مصر-إيران المستجدّ. في المقابل، لم يكن لدى روسيا أي موقف مسؤول تفترضه مكانتها كدولة كبرى. أما الولاياتالمتحدة، فلم يسبق لها أن أمضت كل هذا الوقت في التفرّج على أزمة تعنيها جداً، ومع ذلك تعاملت معها بصفر خيارات، وانتظرت إسرائيل كي تدق على طاولة الكرملين منبّهة إلى الصواريخ «كاسرة المعادلة» مع سورية - إيران - «حزب الله». على خلفية نتائج الهجمات الإسرائيلية، هبط جون كيري فجرَ الخامس من أيار (مايو) في موسكو بحثاً عن «تفاهم» جديد، لأن مصطلح «اتفاق» بدا فضفاضاً على ما تم فعلاً. الاتفاق قد يحصل في قمة اوباما-بوتين بعد شهر من الآن. ورئيس الوزراء البريطاني انتزع دوراً لتنظيم لقاء قمة موسّعة لتكريس أي اتفاق أميركي-روسي. من الواضح أن هناك سعياً لبلورة إرادة دولية لا بد أن تترجم بقرار من مجلس الأمن تحت البند السادس، ويمكن الاستناد إليها لمخاطبة النظام السوري والمعارضة بأن أمامهما سبيلاً لإنهاء النزاع يبدأ بالتفاوض على إقامة «حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة». هذه خطوة كان يجب أن تتم غداة صدور «بيان جنيف» في 30 حزيران (يونيو) 2012، عندما كانت ممكنة، أي قبل أن يتضاعف عدد الضحايا مرتين أو ثلاث، وقبل الدمار الكبير الذي ارتكبه النظام في المدن والبلدات الكبرى. أما الآن، فينبغي أن تكون هذه الإرادة الدولية بالغة الحزم والصلابة والتصميم، وإلا فإنها لن تفلح. عودة إلى «بيان جنيف» إذاً، وكانت روسيا دائبة الإصرار عليه من دون أن تبدو قادرة على إلزام بشار الأسد بنقل صلاحياته إلى الحكومة الانتقالية. تذرّعت بأن اشتراط المعارضة و «أصدقاء سورية» تنحي الأسد يحول دون إقناعه بالتخلي عن صلاحياته. قالت إن هناك حاجة إلى الأسد، أقلّه للتوقيع على نقل الصلاحيات، فهذه خطوة ضرورية للحفاظ على الدولة والجيش والمؤسسات. وأخيراً، حاججت بأن لدى الطرف الذي تمثله، أي النظام، وفداً جاهزاً للتفاوض ويرأسه رئيس الحكومة، في حين أن المعارضة لا تزال مفككة وغير متماسكة ومطعوناً في تمثيلها لعموم الحراك الثوري بشقّيه المدني والعسكري. لكن موقف موسكو عانى في الأساس من عاهة تبدو ثابتة، فهي تنظر إلى ثورة الشعب على أنها «تمرد»، وإلى تصرّف النظام على أنه «طبيعي». هذه عاهة يصعب الاعتقاد بأن روسيا عالجتها وتخلّصت منها، فهي في صميم سياستها وليست عارضة أو فرضتها دواعي الصراع على سورية، لذلك لا يمكن الركون إلى أي «اتفاق» مع الأميركيين طالما أن الروس لم يخلصوا إلى وجوب معاقبة الأسد وأعوانه على الجرائم التي ارتكبوها بحق سورية وشعبها. في غياب الوضوح، ازدهرت التسريبات والتكهنات، وهكذا أمكن أن نفهم أن مقاربتي الدولتين الكبريين تقاطعتا عند أولوية «الحكومة الانتقالية بصلاحيات كاملة» من دون التوقف عند أي شرط مسبق، بمعنى «لننسَ تنحي الأسد» ولنذهب مباشرة إلى هذه «الحكومة»، لكن كيف ستحصل على صلاحيات لا يريد الأسد نقلها؟ إذا كان هناك قرار قوي وواضح من مجلس الأمن، فإن النظام سيجد نفسه للمرة الأولى منذ بداية الأزمة مختلفاً مع الحليف الروسي، لكن يبقى له الحليف الإيراني، الذي سيساعده على اتّباع كل أساليب المراوغة والتملّص والمماطلة. لذلك يجب أن يحدد القرار الدولي مهلة زمنية، وأن يكون مفتوحاً على خطوات لاحقة تحت البند السابع، الذي يجيز التدخل وفقاً للشرعية الدولية. لكن الموقف الروسي -اذا تأكد أنه تغيّر فعلاً!- لم يصل بعد إلى بداية هذا التفكير، وبدل أن نراه يباشر استخدام نفوذه لإقناع الأسد بما هو آتٍ، فإنه سيواصل حثّه على إنجازات ميدانية، وسيشاركه الاعتماد على العناصر المعطّلة، ومنها تصلّب المعارضة وقصور أدائها. يعتمد الأميركيون، ومعهم البريطانيون وسائر «أصدقاء سورية»، على أن الملف صار متخماً ب «الخطوط الحمر» التي تجاوزها النظام، ومن أبرزها استخدام السلاح الكيماوي والصواريخ، وفيه أيضاً تدخل إيران و «حزب الله»، وكذلك صعود «جبهة النصرة» وتعاظم خطر الجماعات الإرهابية. ثم إن التدخل الإسرائيلي زاد المخاطر، كما أن بدايات «التطهير المذهبي» في منطقة الساحل أعادت هواجس البوسنة وكوسوفو إلى الأذهان. إزاء ملف كهذا، لم يعد متاحاً لموسكو أن تواصل اللعبة على النمط الذي اتّبعته طوال عامين، لذلك تبدي حالياً استعداداً للتعاون. ولعل واشنطن ساعدتها بالتخلي عن «تنحي الأسد» كشرط مسبق، مستعيضة عن ذلك بأنه لن يكون جزءاً من الحل. ويراهن «الأصدقاء» على صيغة جديدة موسعة لائتلاف المعارضة، وعلى تعاون مباشر أوثق مع الناشطين على الأرض. ورغم أن مسألة تدخل إيران و «حزب الله» تأخذ حيزاً مهماً في المحادثات، فإن اللافت أن الحديث الإعلامي عنها يكاد يقتصر على المعارضة السورية ومناصريها في لبنان، لكن الخصوم التقليديين لإيران لم يسلطوا الضوء عليها. هنا تتعدد التفسيرات لهذا الصمت الغربي، وحتى العربي، فمنها أولاً أن التدخل غدا مصيدة لإيران في معركة تدرك هي قبل سواها أنها لم تعد مجدية استراتيجياً، ومنها ثانياً أن العمليات العسكرية التي يخوضها «حزب الله» تضعف من انتشار «جبهة النصرة»، ومنها ثالثاً أن هناك حاجة لاجتذاب إيران إلى سيناريو الحل ولا بد من انتهاج بعض المرونة معها لتشجيعها على التعاون. لذلك، لا يبدو أن مشاركتها لا تزال عقدة كما كانت في اجتماع «مجموعة الاتصال» التي توصلت إلى «بيان جنيف»، خصوصاً إذا كانت مستعدة للعب اللعبة وللتعاون مع الأطراف الأخرى في تسهيل شروع طرفي النزاع في التفاوض وتسريعه. وبينما يوحي تكثيف الاتصالات وتسارعها بأن ثمة نافذة فتحت لإحداث اختراق في الأزمة، يبقى الكثير من الغوامض، فروسيا لا تزال تدافع عن أحد أهم شروط النظام، وهو عدم المس بالجيش وأجهزة الأمن، أي استبعاد آلة القتل عن التفاوض، لكن أي «حكومة انتقالية بصلاحيات كاملة» تعني أولاً وقبل كل شيء الإمساك بزمام الوضع من خلال هيئتين مشتركتين، عسكرية وأمنية، بالإضافة إلى هيئة قضائية مشتركة، وإلا فلا جدوى من حكومة كهذه. غير أن الصلاحيات «الكاملة» هي الآن في يد الأسد ويجب انتزاعها منه، إذ إنه لم يخض حربه ليقدمها طواعية، بل ليساوم عليها، ولن يتعاون مع أي حل إذا لم يجر التفاوض معه. ثم إن التحسّن النسبي لموقفه على الأرض وشعوره بأن الحراك الدولي الحالي يسعى إلى محاصرته، يدفعانه إلى تنشيط دوره التقليدي، على نمط تفجيري الريحانية في تركيا، أو استعداده لشنّ عمليات داخل إسرائيل عبر فصائل فلسطينية لا تزال في كنفه، أو سعيه إلى توسيع نطاق القتال إلى خارج الحدود. * كاتب وصحافي لبناني