المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    فرصة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    لبنان يغرق في «الحفرة».. والدمار بمليارات الدولارات    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «آثارنا حضارة تدلّ علينا»    «السقوط المفاجئ»    الدفاع المدني: هطول الأمطار الرعدية على معظم مناطق المملكة    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    التدمير الممنهج مازال مستمراً.. وصدور مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أرصدة مشبوهة !    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    «المرأة السعودية».. كفاءة في العمل ومناصب قيادية عليا    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    «إِلْهِي الكلب بعظمة»!    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    البيع على الخارطة.. بين فرص الاستثمار وضمانات الحماية    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    لتكن لدينا وزارة للكفاءة الحكومية    ترمب المنتصر الكبير    صرخة طفلة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    المؤتمر للتوائم الملتصقة    دوري روشن: الهلال للمحافظة على صدارة الترتيب والاتحاد يترقب بلقاء الفتح    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    الأمن العام يشارك ضمن معرض وزارة الداخلية احتفاءً باليوم العالمي للطفل    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    مدير عام فرع وزارة الصحة بجازان يستقبل مدير مستشفى القوات المسلحة بالمنطقة    ضيوف الملك: المملكة لم تبخل يوما على المسلمين    سفارة السعودية في باكستان: المملكة تدين الهجوم على نقطة تفتيش مشتركة في مدينة "بانو"    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    «المرور»: الجوال يتصدّر مسببات الحوادث بالمدينة    «المسيار» والوجبات السريعة    أفراح آل الطلاقي وآل بخيت    وزير العدل يبحث مع رئيس" مؤتمر لاهاي" تعزيز التعاون    رسالة إنسانية    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة للمدينة المنورة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إطلاق النار على فيل
نشر في الحياة يوم 14 - 05 - 2013

في بورما الدنيا، بالتحديد في مولمين، كان أكثر الناس يكرهونني كانت تلك هي الفترة الوحيدة في حياتي التي كنت فيها ذا أهمية بما يكفي ليحدث لي ما حدث، حيث كنت نائب مفتش الشرطة في المدينة. كانت مشاعر العداء لأوروبا شديدة العنف بشكل بسيط وبلا هدف، لم يكن أحد ليجرؤ على إثارة أعمال الشغب، لكن إذا مرت امرأة أوروبية في أحد البازارات وحيدة فإنه من المرجح أن يسكب أحدٌ ما عصير التامول على فستانها. بصفتي نائب المفتش كنت هدفاً جليّاً، وكان الناس ينصبون لي المكائد كلما سنحت لهم الفرصة؛ في إحدى مباريات كرة القدم عرقلني بورميٌّ خفيف الحركة فأشاح الحكم بنظرة، وقد كان بورميًّا أيضًا وتعالت أصوات الجمهور بضحك شنيع، ولم تكن تلك المرة الأخيرة! في نهاية الأمر كانت وجوه الشباب الصفراء الساخرة التي قابلتني في كل مكان، وإهاناتهم التي تنهال عليّ حالما ابتعد تثير حنقي؛ وكان الكهنة البوذيون صغار السن هم الأسوأ على الإطلاق، كانت أعدادهم بالآلاف في المدينة، ويبدو إنهم لم يجدوا عملًا ليقوموا به سوى الوقوف على ناصية الشارع والتهكم على الأوروبيين.
كانت تلك الأمور محيرة ومزعجة، بما أنني في ذلك الوقت كنت مؤمنًا في قرارة نفسي أن الاستعمار شرٌّ، وأنني كلما أسرعت في ترك وظيفتي وخرجت من ذلك المكان كان أفضل لي، نظريًّا كنت مع البورميين وضد البريطانيين المضطهدين، في السر طبعًا. أما بالنسبة للعمل الذي كنت أؤديه فقد كرهته كرهًا يفوق الوصف؛ في وظيفةٍ كتلك تستطيع أن ترى عن كثب الأعمال القذرة التي تقوم بها الإمبراطورية، السجناء البؤساء محتشدين في أقفاص السجن ذات الرائحة الكريهة، والوجوه الكئيبة المروَّعة للمدانين المحكوم عليهم بوقت طويل، وأرداف الرجال الخائفة من أعواد الخيزران، كل هذه الأشياء أرهقتني بإحساسٍ بالذنب لا يطاق، لكنني لم أستطع أن أضع الأمور في نصابها، فقد كنت صغير السن ولم أحضَ بتعليم جيد، وكان لزامًا عليّ أن أفكر في مشكلاتي في صمتٍ مطبق، صمتٌ فُرِضَ على كل إنكليزيّ في الشرق؛ حتى إني لم أكن على علم بأن الإمبراطورية البريطانية تحتضر، ولم أعلم بأنها كانت أفضل بمراحل من الإمبراطوريات التي ستخلفها، كل ما كنت أعرفه أنني عالق بين كرهي للإمبراطورية التي أخدمها وغيظي من هؤلاء الكائنات الصغيرة الشريرة التي جعلت من أدائي لمهامي الوظيفية أمرًا مستحيلًا.اعتقدت في بعض اللحظات بأن الحكم البريطاني في الهند هو حكم استبدادي صارم ولا يمكن هزمه، وليس له نهاية، رغمًا عن أنف الشعوب الواهنة، وفي لحظاتٍ أخرى اعتقدت بأن أعظم مصدر للابتهاج في الحياة هو حمل حربة وطعن كاهن بوذي بها، مثل هذه الأحاسيس هي مشاعر طبيعية لمن عايش استعمارًا، واسأل أي موظف هندي-إنكليزي، إذا استطعت أن تدركه خارج الخدمة.
في أحد الأيام حدث خطبٌ ما، ونورني بشكلٍ غير مباشر، كانت حادثةً متناهية الصغر إلّا أنها أعطتني لمحة أكثر وضوحًا من نظرتي الحالية عن جوهر الاستعمار، والدوافع الحقيقية وراء كل ما تقوم به الحكومات الاستبدادية. في الصباح الباكر لأحد الأيام اتصل بي مفتش مركز الشرطة من الطرف الآخر للمدينة وقال لي إن فيلًا يدمر البازار، وسألني إن كان بإمكاني الحضور وفعل شيءٍ ما حيال هذا الأمر؟ لم أكن أعرف ما الذي يمكنني تقديمه، لكنني رغبت في رؤية ما يحدث فامتطيت مُهرًا وانطلقت، أخذت معي بندقيتي، ونشيستر عيار 44، كانت أصغر من أن تقتل فيلًا، لكني ظننت أن الضجيج الناتج منها سيرعبه؛ في الطريق إلى الموقع قابلني العديد من البورميين وحدّثوني عما كان يفعله الفيل، لم يكن الفيل، بطبيعة الحال، فيلًا بريًّا بل كان فيلًا مروضًا يمر بدورته النزوية(1)، كان مقيدًا بالسلاسل كحال بقية الفيلة عندما تمر بهذه الفترة، إلا أن هذا الفيل استطاع أن يكسر قيوده في الليلة الماضية ويهرب؛ وكان سائس الفيل وهو الوحيد القادر على ترويضه عندما يكون في هذه الحالة، قد خططَ لمطاردة، ثم سلك طريقًا خاطئًا، والآن هو على بعد اثنتي عشرةَ ساعةٍ من هنا. وفجأة في الصباح عاود الفيل الظهور في المدينة، لم يكن سكانُ بورما مسلحين ووقفوا بلا حولٍ ولا قوة في مواجهة الفيل، دمّرَ الفيل كوخ أحدهم المصنوع من الخيزران، وقتل بقرة، وأَغارَ على أكشاكِ الفواكه، وبدّدَ المخزون، وقابل الفيل في طريقه عربةَ القمامة، فقفز سائق العربة وبدأ بالجري، عندها قَلبَ الفيلُ العربة وأخذ يحطمها.
وَقَفَ المفتشُ وبعض رجالِ الشرطة في انتظاري في الحي الذي مر به الفيل، حيٌّ فقير، عبارة عن متاهة من أكواخِ الخيزرانِ البائسة، بأسقف من جريد النخيل، ملتفة حول تلٍ شديد الانحدار؛ أذكر أنه كان صباحًا غائمًا وخانقًا في بداية موسم الأمطار، شرعنا في سؤال الناس لمعرفة وُجهةِ الفيل، ولكن كالعادة لم نحصل على معلوماتٍ قاطعة، هكذا هي الحال -التي لا تتغير- في الشرق، دائمًا ما تبدو القصة واضحةً بما فيه الكفاية عن بعد، وكلما اقتربتَ من موقع الحدث ازداد الغموض. أخبرنا بعض الناس أن الفيل قد سلك طريقًا وأخبرنا البعض الآخر إنه سلك طريقًا مختلفًا، بينما زعم آخرون أنهم لم يسمعوا عن أي فيل، شَارَفتُ على الاقتناع أن القصة ما هي إلا مجموعةٌ من الأكاذيب؛ حينها سمعنا صرخاتٍ على مقربة منّا، هتف أحدهم بصوتٍ عالٍ وبشكل مروّع: «ابتعد أيها الطفل! انصرف حالاً!» ثم خَرَجَت من خلفِ زاويةِ أحدِ الأكواخ امرأةٌ كبيرة في يدها سوط، وهشت بعنف على زمرةٍ من الأطفال العراة، عندئذ تَبِعَتها مجموعة من النساء، وهنّ يطقطقن بألسنتهن ويهتفن، على ما يبدو كان هنالك شيء لا يجدر بهؤلاء الفتية مشاهدته، التففت حول الكوخ فشاهدت جثة رجلٍ ممددة في الوحل، كان الرجل هنديًّا، كوليًّا(2) درافيديًّا(3) أسود شبه عارٍ، ولا أظنه توفي منذ وقتٍ طويل. أخبرني الناس أن الفيل فاجأه عِندَ زاوية الكوخ، وأَمسكَهُ بخرطومهِ، ووضع رجله على ظهر الرجل وسحقه على الأرض، حَدَثَت القصة في موسم الأمطار وكانت الأرض لينة، فَحَفَرَ وجه الرجل خندقًا في الأرض، بعمق قدم وطول ياردتين؛ كان ملقى على بطنه، وذراعاه متصالبتان، ورأسه ملتوية إلى أحد الجانبين بشكل حاد، ووجهه مغطى بالطين، وعيناه مفتوحتان تمامًا، كانت أسنانه ظاهرة خلف تكشيرة عريضة، كان باديًا على ملامحه إنه عانى من ألم مبرحٍ لا يطاق، (على فكرة، لا تقل لي أبدًا إن الأموات يبدون في سلام، فمعظم الجثث التي رأيتها بدت شيطانية). الاحتكاك الناتج من قدم هذا الوحش العظيم سَلَخَت الجلدَ من على ظهر الرجل، كما يسلخ أحدنا بعناية جلد أرنب؛ ومباشرة بعد أن شاهدت جثة الرجل أرسلت جنديًّا إلى منزل صديق يقطن بالقرب من الموقع، لكي يحضر بندقية قادرة على الإطاحة بفيل، في ذلك الحين كنت قد أرسلت المهر بعيدًا، فلم أرد أن يصيبه الرعب فيهتاج ثم يطرحني أرضًا عندما يشم رائحة الفيل.
عاد الجندي بعد بضع دقائق ومعه البندقية وخمسة من أمشاط الرصاص، في هذه الأثناء وصل مجموعة من البورميين وأخبرونا أن الفيل في حقل الأرز المجاور، لم يبعد سوى بضع مئات من الياردات، بمجرد أن تقدمت، توافد تقريبًا كل سكان الحي من منازلهم وتبعوني، رأوا البندقية وكانوا يصرخون بحماسة عن إقدامي على قتل الفيل. لم يُبدِ السكان أي اهتمام عندما كان الفيل يُدمّر منازلهم، لكن الوضع مختلف الآن بعدما أصبح الفيل على وشك أن يتلقى طلقة نارية، كان الأمر ممتعًا قليلاً بالنسبة إليهم، بالضبط كما سيكون ممتعاً بالنسبة إلى جمهور إنكليزي، إضافة إلى ذلك فقد أرادوا اللحم، وقد جعلني هذا مضطرباً بشكل غامض. لم تكن لدي نية إطلاق النار على الفيل، كنت قد أرسلت في طلب البندقية للدفاع عن نفسي فحسب، إذا استدعى الوضع ذلك، إنه لأمرٌ مثير للأعصاب أن يلحق بك حشد من الناس؛ سرت إلى أسفل التلة، كنت أبدو أحمقَ وأحس بالحماقة، بتلك البندقية على كتفي وجيش مستمر النمو وبشر يتزاحمون عند كعبي، في أسفل التل عندما تبتعد عن الأكواخ، تجد سكة حديد وبعدها مستنقعات مترامية الأطراف من حقول الأرز على امتداد ألف ياردة، ليست محروثة بعدُ، إلا أنها لزجة بسبب المطر وبها بعض الحشائش المنتشرة وغير المرتبة، وقف الفيل على بعد ثمانِ ياردات من الطريق، ويواجهنا جانبه الأيسر، ولم يبدِ أدنى اهتمام بالحشود الوافدة، أخذ يقطع حزماً من العشب ويضربها على ركبتيه لتنظيفها ثم يتناولها.
تسمرت على الطريق، بمجرد أن نظرت إلى الفيل، تيقنت تمام اليقين أنه لم يكن لزامًا عليّ أن أطلق النار على الفيل، إنه أمرٌ جلل أن تقتل فيلًا قادرًا على العمل-مشابه لتدمير إحدى الآلات الضخمة والثمينة- وبالتأكيد لا يجب على أحدٍ الإقدام على تدمير هكذا آلة إذا أمكن تفادي الأمر، وعلى مسافةٍ مني كان الفيل يأكل في سلام لم يبدُ أكثر خطورة من بقرة، اعتقدت آنذاك وما زلت أظن حتى اليوم أن ثورة هيجانه كانت على مشارف نهايتها، وفي مثل هذه الحال ستقتصر حركته على التجوال في الأنحاء بلا أذى، حتى يعود سائقه ويقبض عليه؛ إضافة إلى أنني لم أرغب أبدًا في إطلاق النار عليه، قررت أن أراقبه لفترةٍ وجيزة حتى أتأكد إنه لن يعود لوحشيته مرة ًأخرى، وبعدها أعود للمنزل.
وفي تلك اللحظة، ألقيت نظرة خاطفة على الحشد الذي تبعني، حشد هائل، ألفان على أقل تقدير ويتزايد العدد كل دقيقة، سدّوا مسافة طويلة على كلٍّ من جهتي الطريق، نظرت إلى بحر من الوجوه الصفراء تعلو أقمشة ذات ألوان صارخة، جميعها سعيدة ومتحمسة بسبب هذا الكم اليسير من المرح، وكلهم ثقة أن الفيل سيقتل. أخذوا يراقبونني كما يُرَاقَبُ ساحر على وشك تأدية خدعةٍ ما، لم أعجبهم لكن مع وجود البندقية السحرية معي صرت للحظة جديراً بالمشاهدة، وفجأة عرفت أنه في نهاية المطاف سيتوجب عليّ قتل الفيل، يتوقع الناس مني فعل ذلك فيجب عليّ فعله، أحسست بإرادة ألفي شخص تدفعني بشكل لا يقاوم نحو إتمام الأمر، وفي هذه اللحظة بينما أنا أحمل البندقية بين يديّ، أدركت للمرّة الأولى مدى خواء وعبثية سيادة الرجل الأبيض في الشرق. هنالك وقفت، الرجل الأبيض ذو السلاح، أمام حشد غير مسلح من أهل البلد، وعلى ما يبدو الممثل الرئيس في هذا العمل، ولكن في الحقيقة كنت مجرد دمية سخيفة، تدفعني جيئة وذهاباً رغبة الوجوه الصفراء خلفي، فهمت في تلك اللحظة، أنه عندما يتحول الرجل الأبيض إلى طاغية فهو يقضي على حريته هو، ويصبح شخصية صاحب حقيقية، تمثالاً للرسم، وأجوف نوعاً ما، لأن شرط حكم الصاحب أن يقضي حياته في محاولة إثارة إعجاب السكان الأصليين، لذلك عند كل أزمة يجب عليه أن يفعل ما يتوقع السكان الأصليون أنه فاعل، ويرتدي قناعاً فتتغير ملامح وجهه لتناسب القناع. يجب عليّ قتل الفيل، لقد ألزمت نفسي بإطلاق النار لحظة أن أرسلت في طلب البندقية، فالصاحب يجب أن يتصرف كصاحب، يجب أن يظهر بمظهر الحازم، وأن يعرف طريقة تفكيره، وأن يحسم الأمور؛ بعد أن قَدِمتُ كل هذه المسافة، والبندقية في يدي، وألفان من البشر يسيرون خلفي، أأعود أدراجي بضَعْفٍ من دون أن أنجز شيئاً؟ إنه لأمر مستحيل، ستضحك الحشود عليّ! حياتي كلها وحياة كل رجلٍ أبيض في الشرق ما هي إلا صراعٌ لتجنب ضحك الناس علينا.
لكنني لم أرغب في إطلاق النار على الفيل، راقبته وهو يضرب بأعشابه على ركبتيه، بمظهر الفيلة المعتاد الذي طالما ذكرنا بجو الجدة، بدا لي أن إطلاق النار على الفيل سيكون جريمة قتل، في ذلك العمر لم أكن شديد الحساسية تجاه قتل الحيوانات، إلّا أنني لم أقتل فيلاً قط ولم أرغب في ذلك، «بطريقة ما دائماً يبدو قتل حيوان كبير الحجم أكثر سوءاً»، إضافة إلى أنه يجب أن يؤخذ في الاعتبار مالكُ الحيوان، إذا كان الفيل على قيد الحياة فهو يساوي مالاً يقل عن 100 جنيه، أما ميتاً فقيمته هي قيمة أنيابه لا أكثر، ربما خمسةُ جنيهات. وجب عليّ التصرف بسرعة، التفت إلى مجموعة من البورميين الذين كانوا موجودين هناك عند وصولنا، وقد بدت الخبرة على محياهم، وسألتهم كيف كان سلوك الفيل، كلهم أجابوا بالإجابة نفسها: «لن يلاحظك الفيل إن لم تعترض طريقه، ولكنه قد يهاجم إذا اقتربت منه أكثر من اللازم».
ما وجب عليّ فعله كان واضحاً بالنسبة إليّ تمام الوضوح، وجب عليّ أن أسير باتجاه الفيل حتى أكون على مسافة لنقل 25 ياردة منه وأختبر سلوكه، إن هاجمني يمكنني أن أطلق النار، وإن لم يلاحظني سيكون من الآمن تركه هناك حتى يعود سائقه، لكنني أيضاً علمت أنه لا يمكنني أن أقوم بعمل مماثل، فقد كنت أحمل بندقية لكنني سيئ في التصويب، والأرض كانت طينية لينة حيث تغوص قدمك مع كل خطوة، فإذا ما هاجمني الفيل وأخطأت إصابته، فإن فرصتي في النجاة مساوية لفرصة نجاة ضفدع تحت آلة تمهيد الطرق. وحتى في تلك اللحظة لم أكن أفكر في نفسي، بل في الوجوه الصفراء المراقبة القابعة خلفي. في تلك اللحظة ومع هذا الحشد وهو يراقبني لم أكن خائفاً بالمعنى الاعتيادي، بقدر ما كان الخوف سيتملكني لو كنت وحيداً، يجب على الرجل الأبيض ألّا يبدي خوفه أمام السكان الأصليين، لذلك وبشكلٍ عام فهو لا يخاف؛ الفكرة الوحيدة التي سكنت عقلي هي، إذا ما سار الأمر بشكل خاطئ فإن الألفي بورميّ سيشاهدونني تتم ملاحقتي، وإمساكي، والدوس عليّ، وتحويلي إلى جثة هامدة ترتسم على وجهها تكشيرة عريضة، تماماً كالهندي في أعلى التلة، وإذا حدث ذلك فإنه من المحتمل جداً أن يضحك بعضهم، إذاً هذه الفكرة غير مناسبة.
لم يكن هناك سوى بديلٍ واحدٍ، حشوت مخزن البندقية بأمشاط الرصاص، استلقيت على الطريق حتى يكون الهدف أكثر وضوحاً، وقف الحشد بلا حراك، وخرجت تنهيدة عميقة وخافتة وسعيدة من حناجر لا تعد ولا تحصى، كتنهيدة جمهورٍ رأى ستار المسرح قد رُفع أخيراً، اتضح أنهم سيحظون بقليل من المرح في النهاية، البندقية كانت قطعة ألمانية جميلة تحتوي على منظار ذي علامة زائد للتصويب رفيعة مثل شعرة. لم أعلم حينها أنه عند إطلاق النار على فيل يجب قَطعُ خطٍّ متخيلٍ من فتحة الأذن إلى فتحة الأذن الأخرى، بناءً على ذلك، وبما أن الفيل وجّه جانبه ناحيتنا، وجب عليّ أن أصوّب مباشرة نحو فتحة أذنه؛ لكن ما حدث في الحقيقة أني صوّبت على بعد بضعة بوصاتٍ من أذنه معتقداً أن دماغه سيكون أمام هذا المكان قليلاً.
عندما ضغطت الزناد لم أسمع دوياً ولم أشعر بارتداد السلاح، عادةً لا يحس المرء بهذه الأشياء عندما يصيب الهدف، لكنني سمعت الصخب الشيطاني الذي أطلقه الحشد من الفرح؛ في تلك اللحظة - قد يعتقد المرء أنه وقت قصير جداً، حتى بالنسبة إلى الرصاصة لتصل إلى الهدف - تغيرٌ غامض ومريع حلّ بالفيل، لم يسقط ولم يثر أية جلبة، لكن كل خط على جسده تغير، فجأةً بدا الفيل مصدوماً، ومنكمشاً وعجوزاً للغاية؛ وكأنّ الأثر المفزع للطلقة قد شلّه من دون أن يسقطه، في النهاية، بعد لحظة مرت كدهر، ربما كانت خمسَ ثوانٍ، سأجرؤ وأقول إنه ضَعُفَ وكانت ركبتاه رخوتين، وسال اللعاب من فمه؛ شيخوخةٌ شنيعةٌ حلّت به، قد يتصور من يراه أن عمره آلاف الأعوام، أطلقت النار مرة أخرى على المكان نفسه، لم يقع بعد الطلقة الثانية بل رفع نفسه على أطرافه ببطء فيه يأس واستقام بوهن، ووقف على أرجل مرتخية وبرأسٍ يتدلى؛ أطلقت النار للمرة الثالثة، كانت هذه الطلقة هي القاضية، كان بالإمكان رؤية سكرة الموت تهز جسده بالكامل وتقضي على آخر أثرٍ للقوة في أرجله؛ لكن مع سقوطه بدا لوهلة وكأنه ينهض، بما أن رجليه الخلفيتين انهارتا تحته فصار كأنه يرتفع إلى الأعلى، مثل صخرة ضخمة تتداعى للسقوط، وخرطومه امتد نحو السماء مثل شجرة؛ وأطلق الفيل نهيماً مدويّاً للمرة الأولى وكانت الأخيرة، ثم سقط أرضاً، كان بطنه باتجاهي، سقط محدثاً ضجيجاً هزّ الأرض حتى المكان الذي كنت مستلقيّاً فيه.
وقفت، كان البورميون يتجاوزونني راكضين عبر الطين، كان واضحاً أن الفيل لن ينهض مرة أخرى مطلقاً، لكنه لم يفارق الحياة، كان يتنفس بشكل إيقاعي، مع لهاثٍ طويلٍ وصاخب، وكان جانبه الشبيه بتل يرتفع وينخفض بشكل مؤلم، كان فاغراً فاه، كنت أستطيع أن أرى في نهايته مغارات حلقه ذات اللون الزهري الشاحب؛ انتظرته طويلاً حتى يقضي نحبه، إلا أن تنفسه لم يضعف، في النهاية أطلقت آخر رصاصتين بقيتا معي، على المكان الذي ظننت أن قلبه يقبع فيه، فتدفق منه دم غليظ القوام كالمخمل الأحمر، وما زال على قيد الحياة، لكن جسده لم يرتعش عندما أصابته الطلقتان، واستمرت أنفاسه المعذبة بلا توقف؛ كان ينازعُ الموتَ، ببطء شديدٍ وألم مبرح، لكن في عالمٍ ما بعيداً عني، حيث لا يمكن حتى لرصاصة أن تسبب له أضراراً أكثر. أحسست أنه يجب عليّ أن أضع حداً لهذه الجلبة المفزعة، كانت مفزعة رؤية هذا الوحش العظيم مستلقياً هنالك، عاجزاً عن الحراك ويعجز عن الموت أيضاً، ولا أستطيع حتى أن أنهي حياته؛ أرسلت مرةً أخرى في طلب بندقيتي الصغيرة، وهمرته برصاصةٍ تلو أخرى، وجهتها نحو قلبه وأسفلَ حلقه؛ ظهر لي أن الرصاصات لم تؤثر فيه، فلهاثه المعذب استمر بثباتٍ كدقات ساعة.
في نهاية المطاف لم أقوَ على احتمال الموقف أكثر فذهبت بعيداً، بلغني بعد ذلك أنه استغرق نصف ساعة حتى يفارق الحياة، أحضر البورميون بكل حيوية سلالهم حتى قبل أن أغادر المكان، أخبروني بعدها أنهم نزعوا كل لحمه تقريباً حتى وصلوا إلى العظم بحلول بعد الظهيرة.
بعدئذٍ، وبكل تأكيد كانت هناك محادثاتٌ لا نهاية لها حول إطلاق النار على الفيل، مالِكُهُ كان غاضباً، لكنه لم يكن سوى هنديٍّ ولم يقدر على القيام بأي شيء، إضافة إلى أنني قانونيّاً قمت بالعمل الصائب، لأن الفيل الهائج يجب قتله، كالكلب المسعور، إذا فشل صاحبه في السيطرة عليه. في أوساط الأوروبيين انقسمت الآراء، كبار السن قالوا إنني كنت مصيباً، وصغار السن قالوا إنه لَعَارٌ أن يقتل فيل لقتله كوليّاً، لأن فيلاً يساوي أكثر من أي كوليٍ كورنغيٍ ملعون؛ وكنت مسروراً جداً أن الكوليّ قد قتل، لأن ذلك جعلني في وضع مناسبٍ قانونيّاً، وأعطاني ذريعة كافية لإطلاق النار على الفيل. كثيراً ما تساءلت عمّا إذا كان الآخرون قد أدركوا أنني أقدمت على هذا العمل لتجنب أن أظهر بمظهر الأحمق فقط لا غير.
ترجمة: منيرة الخريجة
مراجعة: مهره العتيبي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.