على رغم مرور أكثر من خمسة أيام على الغارات الجوية الإسرائيلية على مواقع عسكرية في دمشق، لم يتضح بعد الهدف منها. وهي أثارت زوبعة من ردود الفعل والتصريحات والتفسيرات المتضاربة والاتصالات السياسية والديبلوماسية، فاق ضجيجها الإعلامي والدعوي كل الاعتداءات الإسرائيلية السابقة وشبه الدورية على سورية، بما فيها الغارة التي شنتها الطائرات الإسرائيلية في كانون الثاني (يناير) الماضي وقيل إنها استهدفت شحنة أسلحة كانت في طريقها إلى «حزب الله» في لبنان. وجاء تضارب المعلومات والتقديرات المتعلقة بالضربة الجديدة وأهدافها المفترضة ليترك انطباعاً عن غموض يوازي غموض المواقف والمحادثات الدائرة حول إمكانية اجتراح حل للنزاع في سورية وعليها. لا يمكن بالطبع التعويل على النظام القائم لتبديد الغموض هذا، بالنظر إلى رسوخ المراوغة الأمنية وتورياتها في أداء السلطة المعتمد مديداً على المعالجة الأمنية للقضايا الكبيرة والصغيرة. وكان متوقعاً أن تعلن الحكومة السورية احتفاظها بحق الرد على الاعتداء في الوقت والمكان المناسبين وإن كان هذا الموقف المعهود أثار استياء وزراء في الحكومة الحالية إلى حد وصفه بأنه «بشع». هل كانت الغارات التي طاولت مواقع ومخازن أسلحة ومراكز عسكرية لا تبعد كثيراً عن القصر الجمهوري، تستهدف صواريخ مطورة ونقلها إلى «حزب الله»، وفق رواية شائعة، أم استهدفت قوات نظامية ما أوقع عدداً من الضحايا يفوق بكثير الرقم المعلن رسمياً؟ وما معنى الرسالة التي أوصلتها الدولة العبرية إلى القيادة السورية عبر وسطاء دوليين وتتحدث عن عدم رغبة إسرائيل في التصعيد والتدخل في الحرب الأهلية؟ الغموض الذي يلف الاعتداء يجد ما يناظره في الملفات الكثيرة المتصلة بنزاع يزداد غموض أفقه ومآله، بمقدار ما يزداد جموح أطرافه نحو أقاصي العنف وتنقل المجازر وأعمال التطهير. ملف الأسلحة الكيماوية بات هو الآخر مادة تلاعب يحاط بغموض محسوب ومدروس خصوصاً بعد تصريح كارلا ديل بونتي، المدعية العامة السابقة في المحكمة الجنائية الدولية، عن استخدام قوات في المعارضة لغاز السارين، فيما تشكك الإدارة الأميركية بدقة هذه المعلومات وصحتها وتلجأ إلى ضخ تصريحات متضاربة لا توضح شيئاً. إذ تصر، ومعها لجنة المحققين الدوليين، على عدم وجود أدلة دامغة على استخدام هذا السلاح من قبل أطراف النزاع مما لا يسمح باستنتاجات قاطعة. الغموض هنا يذكر بنظيره المتعلق بأسلحة الدمار الشامل في العراق. حتى اللقاء الذي جمع في موسكو وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف ورئيسه فلاديمير بوتين، والذي وعد بتقارب في وجهات النظر وبعقد مؤتمر دولي على أساس بيان جنيف لإيجاد حل سياسي تفاوضي، لا ينقصه الغموض. لكن الغموض يكتنف الموقف والأداء الأميركيين أكثر بكثير من موقف الند الروسي الذي يبقى واضحاً لجهة دعمه النظام السوري بصفته ضامناً مصالح روسيا وموقعها في الشرق الأوسط. فقد أعلن كيري أن «البديل عن التوصل إلى حل سياسي من طريق التفاوض سيكون مزيداً من العنف والفوضى وقد يكون تفكك البلاد». وأرفق تقديره هذا بالقول إن الأمر قد يؤثر في القرار الأميركي في ما يتعلق بتسليح المعارضة. ويفهم من هذا أن التوافق النسبي بين الدولتين العظميين على ضرورة الحل السياسي يستجيب ربما لحاجة متزايدة إلى بعث مقدار من التفاؤل، لكنه لا يمنع السعي إلى تحسين مواقع المتنازعين ميدانياً عبر إمعانهم في لعبة عض الأصابع التي يخشى أن تبلغ حداً لا يعود فيه ثمة موضوع للتفاوض سوى تقاسم الدمار والخراب. قد يكون صحيحاً أن السلطة الأسدية أوصلت الأمور إلى الحد العبثي الذي وصلت إليه. ففرصة حلٍ معقول ذي صفة سياسية وحقوقية تسمح بتغيير صيغة العقد الاجتماعي المؤسس للدولة، كانت ممكنة ربما خلال الأشهر الستة التي غلب فيها الحراك السلمي المدني، ومطالبته المشروعة بالحرية والكرامة، على ما عداه من نوازع يولدها العنف والبطش وتصبح مدار فعل عنفي يتغذى من نفسه. فوّتت السلطة هذه الفرصة وساعدها في ذلك تزاحم القوى الإقليمية والدولية الداعمة للمعارضة ما حوّل هذه، خصوصاً في شقها الخارجي أو معظمه، إلى مسرح للتنافس والانقسام والصراع على النفوذ والحظوة والتبعية، بحيث تقلصت حظوظ المدافعين عن استقلالية القرار السوري المعارض. وليس أدل على ذلك من التباس المواقف وغموضها من مجموعات متشددة ومتطرفة مثل «جبهة النصرة» وأخواتها من مشتقات «القاعدة» والسلفيات الجهادية، وهي منظمات ينفخ النظام وحلفاؤه في صورتها معولاً على اختزال الحراك كله وقواه المتنوعة والمتعددة إلى مشروع استبدال استبداد بآخر. وطاول الغموض هذا سياسات التغطية الإعلامية والدعوية الداعمة للمعارضة. فنحن لا نقع على تحقيقات ميدانية أو غيرها، خصوصاً في الإعلام العربي المساند للمعارضة، عن نشاط تنظيمات مثل «النصرة» ومصادر وطرق تمويلها وتسليحها وتدفقها عبر الحدود إلى داخل سورية. وليس مستبعداً أن تكون الفئات والمناطق والبيئات الاجتماعية التي طاولها البطش الأسدي تحولت بفعل الرضوض والجروح إلى مادة جموح شمشوني، يوازي شمشونية السلطة ما يعزز فرص تمدد قوى جذرية وإن كانت بلا أفق سياسي حقيقي. تضافرت هذه العوامل كلها ولا تزال بحيث أنتجت مواصفات حرب أهلية سيظل الوالغون فيها يرفضون صفتها هذه وإن كانوا يعلمون جيداً أن اختلاط السياسي بالأهلي القرابي والمذهبي والمحلي يفسح في المجال لتشكل عصبيات من كل نوع ومن كل الأحجام والأوزان، ويقلل فرص توافق على صيغة جامعة ومشتركة تحفظ ما تبقى من لحمة وطنية ومن صورة مجتمع بات ينخره التصدع والتذرر. في هذا المعنى، لم تعد الحرب الأهلية تقتصر على مواجهة بين نظام يدعي حماية الأقليات عبر البطش بالأكثرية وبين معارضات لا تنتظم حول أفق واضح، إذ بات يُخشى للأسف من تمدد بعض عناصر الاحتراب الأهلي داخل بيئات المعارضة ذاتها. قصارى القول إن النزاع في سورية بلغ حد العبث والانسداد، بصرف النظر عن اصطفافات الرأي والمقاربات. وهذا هو السياق الذي تندرج فيه الضربة الإسرائيلية ورسائلها الموجهة في كل الاتجاهات تقريباً.