بعد تأجيلات متتالية، أُطلقت أخيراً «الهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري» في تونس بهدف تنظيم القطاع وتعديل ما أمكن من القوانين التي تسيّره. ولئن ساهمت التجاذبات السياسية في شكل مباشر في هذه التأجيلات المتكررة إلاّ أن الإعلان عن تشكيل الهيئة بعث ارتياحاً في هذا القطاع الحساس. ولعلّ تنظيم القطاع وتنظيم آلية إسداء التراخيص للمحطات الإذاعية والقنوات التلفزيونية، والتحضير لتغطية الانتخابات المقبلة أبرز الملفات التي ستعمل عليها الهيئة. ويمثّل تنظيم قطاع الإعلام السمعي والبصري في تونس هاجساً، ليس لدى المهنيّين فحسب، بل لدى المشاهد العادي الذي لم يتعوّد هذه الطفرة في القنوات والبرامج. والمسألة تتجاوز مجرد التوافق حول هيئة مستقلّة كانت أم حكومية لتنظيم القطاع الذي يشكو من الهنّات ويتطلّب وقتاً طويلاً حتى يستقيم ويصبح واضح المعالم وجليّاً بعيداً عن الغموض الذي يلفّه ويجعله يمثّل إشكالاً حقيقياً في ظل ما تعيشه البلاد من هزّات متتالية على جميع الصعد. فعدد المحطات الإذاعية والتلفزيونية تضاعف بعد 14 كانون الثاني (يناير) 2013. وبحسب بعض المتابعين فإنّ قنوات جديدة تأسست بعد الثورة بدت موالية تماماً لبعض الأحزاب فيما أخرى تكرّس العداء المزمن للحكومة، ما يعني أنّ بعض المؤسسات حادت تماماً عن الحياد والموضوعية ودخلت في عمق الصراع السياسي الذي تعيش على إيقاعه تونس منذ الانتخابات الماضية في تشرين الأول (أكتوبر) 2011. وهذا ما ينكره القائمون على تلك القنوات، إذ يشدد جميعهم على حياد قنواتهم وعملها في إطار القواعد المهنيّة. هيئة تعديلية وكان نوري اللجمي رئيس «الهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري»، تحدث إلى إذاعة «مونتي كارلو» الدولية عن عمل هذه الهيئة المنتخبة حديثاً وعن مهماتها وصلاحياتها، معتبراً أنّ مهمّتها «تعديلية على غرار الهيئات المتخصصة في مجال السمعي البصري في عدد من الدول الديموقراطية». وتمنى أن «يخدم تفعيل هذه الهيئة المسار الديموقراطي في تونس، وأن تكون بالتعاون مع كل المعنيين بهذا الميدان لتنظيم القطاع وتأهيله أكثر والارتقاء بالمنتوج السمعي البصري، وتعزيز الثقة بين الوسائل السمعية والبصرية والمواطن، وذلك باحترام القواعد المهنية، بخاصة أن الثقة كانت مفقودة قبل الثورة». ولعلّ في إشارة اللجمي إلى مسألة الثقة أكثر من دلالة إذ أنّ الثقة بين المؤسسات الإعلامية والمتلقّي التونسي اهتزّت بشكل كبير بعد الثورة، ذلك أنّ التونسي اليوم يرى أنّ الإذاعات والتلفزيونات العمومية والخاصة، أصبحت إمّا مساحات للدعاية لهذا التيّار السياسي أو ذاك، أو فضاءات لانتقاد حزب أو تنظيم سياسي في شكل مباشر و «مبالغ فيه أحياناً»، وهو ما جعل هذه الثقة تترنّح بخاصة في ما يتعلّق بالحوارات السياسية التي تأخذ عادة بعداً انتقامياً وإقصائياً تغلّفه عقلية تصفية الحسابات. وهنا يتمنّى اللجمي «أن تظهر النتائج الإيجابية للهيئة في أقرب وقت ممكن، بخاصة أن الانتخابات على الأبواب ودور الهيئة التعديلية مهم جداً، لتنظيم تغطية العملية الانتخابية وإعطاء كل صاحب حق حقه حسب أمور علمية عادلة». مشهد معقّد ويتّفق كثيرون من المتابعين على أن المشهد السمعي البصري في تونس معقّد بخاصة لعدم توافر قوانين مفصلة تحدد المسؤوليات وتعدّل البوصلة. وفي هذا السياق يشدد الخبير الإعلامي ماهر عبد الرحمن على هذه النقطة، خصوصاً «في ظل وجود قنوات من العهد السابق بتراخيص مفتوحة، أي أنّها غير محدودة في الزمن كما هي الحال في بريطانيا أو الولاياتالمتحدة». ولم يغفل «عدم إمكان تلبية كل الرغبات للحصول على تراخيص بث لأنّ خريطة الذبذبات الهرتزيّة غير منظمة مع دول الجوار ومحدودة». ويضيف: «هذا مع ظهور قنوات جديدة في فترة الفراغ ما بين الهيئة التأسيسيّة السابقة والهيئة الحالية، ومعظم هذه القنوات ذات مرجعيّات سياسيّة، وهذه ثغرة كبيرة، إضافة إلى تحوّل قنوات أخرى من مستقلّة إلى قريبة من أحزاب معينة». ويرى عبد الرحمن أنّ مهمّة الهيئة لن تكون يسيرة، ويقول: «لا أعتقد أن هيئة الإعلام سيمكنها أن تفعل الكثير بخاصّة إذا لم تكن قراراتُها بمفعول القوانين. لهذا، أعتقد أنها، إذا سعت إلى مسّ بعض القنوات، فإنّها ستتعرّض إلى حرب شديدة قد لا يمكنها مواجهتها. وأوّل ما على الهيئة فعله هو وضع قوانينها الداخليّة وهيكليتها، وتحديد ما يلزمها من موظفين، والبحث عن مصادر تمويل وإقرارها، ولا يكون ذلك إلا بقوانين تكميليّة، ووضع مدونة سلوك لفرض احترام أخلاقيات المهنة على القنوات الإذاعيّة والتلفزيونية، وهذا سيتطلّب منها وقتاً طويلاً قبل الشروع في مهمتها الأساسية». وفي كل الحالات يمثّل الإعلان عن الهيئة المستقلة للإعلام السمعي البصري في تونس خطوة إيجابية نحو تحديد ملامح المشهد الإعلامي التونسي عموماً أمام ما يتهدده من محاولات لقمعه وإسكاته أو تحويل جهته نحو مسالك سياسيّة وحزبية ضيقة.