تلقت المقدسية «أم جمال» التي تعيش في مدينة رام الله في الضفة الغربية قبل أيام مكالمة هاتفية من شركة للبريد تخطرها أنها تريد إيصال طرد بريدي مستعجل إلى زوجها، وحصلت منها على العنوان. وبعد دقائق، فوجئت بمفتشي هيئة التأمين الوطني الإسرائيلي يطرقون عليها الباب منتحلين صفة عمال بريد، ليوثقوا أن العائلة تعيش في رام الله وليس في مدينة القدس. قد لا يبدو هذا الخبر مثيراً لأحد، لكنه حتماً سيكون أكثر من مثير إذا عُرف أن هذه الخدعة جردت هذه العائلة من حقها في الإقامة في مدينة القدس. ويعيش أهالي مدينة القدسالشرقية البالغ عددهم 290 ألفاً وضعاً قانونياً استثنائياً لا شبيه له في العالم، إذ يحتم عليهم القانون الإسرائيلي المطبق على المدينة، إثبات إقامتهم فيها لمدة ثلاث سنوات متتالية، وإلا فقدوا حقهم في البقاء فيها، وتَحتم عليهم البحث عن بلد آخر. وفرضت الحكومة الإسرائيلية القانون الذي أطلقت عليه اسم «الدخول إلى إسرائيل ومركز الحياة» على أهالي المدينة بعد احتلالها وضمها إلى الدولة العبرية، وذلك بخلاف باقي أجزاء الضفة الغربية، بهدف التخلص من سكانها تدريجاً واستبدالهم بمستوطنين. ووفق إحصاءات متطابقة، فإن إسرائيل جردت 15 ألف عائلة من القدس من حقها في الإقامة في المدينة بعد أن سحبت منها بطاقات الهوية تحت ذريعة مخالفة هذا القانون. وقال مدير مؤسسة «المقدسي»، التي تعني بالدفاع عن حقوق أهالي القدس معاذ زعتري ل «الحياة»، إن أعداداً كبيرة من أهل القدس، بينهم طلاب درسوا في جامعات خارج الوطن، فقدوا بطاقات هويتهم المقدسية، وتحولوا إلى لاجئين بسبب عدم قدرتهم على إثبات إقامتهم في المدينة خلال ثلاث سنوات متتالية. ويضطر الكثيرون من أهل القدس إلى الدراسة أو العمل أو السكن خارج المدينة بسبب عدم توافر فرص الإقامة والدراسة والسكن، ما يهدد بفقدانهم حق الإقامة فيها. ولا يجد كثير من العائلات فرصة للسكن في المدينة بسبب الارتفاع الهائل في أسعار أو أجور الشقق وضرائب الأملاك، ما يضطره للسكن في المناطق المجاورة في الضفة الغربية، خصوصا مدينة رام الله وسط الضفة، العاصمة الإدارية للسلطة الفلسطينية. وتتراوح الأجرة الشهرية للشقة الصغيرة والمتوسطة في القدس بين 800-1500 دولار، تضاف إليها ضريبة الأملاك. وقال صحافي مقدسي يعمل في هيئة الإذاعة والتلفزيون في رام الله، إن أجرة شقته تبلغ 1200 دولار، وهو ما يساوي راتبه الشهري، الأمر الذي يضطره للبحث عن عمل إضافي بصورة دائمة. وتلاحق فرق التأمين الوطني سكان القدس في الضفة لإثبات أن مركز حياتهم انتقل إلى خارج المدينة، ما يمكنها أولاً من وقف التأمين عنهم، وتالياً سحب بطاقات هويتهم، ووقف إجراءات لمّ شم العائلات لأبناء أسرهم، في حال زواجهم من حملة هوية الضفة أو جنسيات أخرى. وثمة من أهل القدس من يضطر إلى السكن في رام الله لزواجه من أجانب أو من فلسطينيين من سكان الضفة. ويقدم هؤلاء طلبات لمّ شمل لعائلاتهم، لكنهم يفقدونها فور اكتشاف أنهم يعيشون في الضفة. كما يضطر بعض أهالي القدس، خصوصاً من ذوي العائلات الكبيرة، إلى السكن في رام الله، والى استئجار شقة صغيرة في القدس للحفاظ على عنوان في المدينة لحماية حقه في الإقامة فيها. لكن السلطات الإسرائيلية تدهم هذه الشقق والبيوت للتحقق من إقامة سكانها فيها. وقال عدد من هؤلاء المواطنين إن مفتشي التأمين يفتشون الثلاجات وينبشون النفايات والحمامات في هذه الشقق للتأكد من أنها مسكونة. وقالت سيدة من القدس تعيش في رام الله إن موظفي التأمين الإسرائيلي يلتقطون صوراً بصورة سرية لمواطنين مقدسيين أثناء خروجهم صباحاً من أبواب مساكنهم في رام الله. وأوقفت السلطات الإسرائيلية منذ عام 2002 لمّ الشمل لجميع الفلسطينيين في إسرائيل، بمن فيهم سكان القدسالشرقية. وقال الزعتري إن جميع قضايا لم الشمل المنظورة أمام المحاكم في هذه المرحلة تعود إلى ما قبل عام 2002. ولا تقتصر السياسة الإسرائيلية الرامية إلى تقليص عدد سكان القدس الفلسطينيين إلى أقل عدد مكمن على سحب الهويات بل تمتد لتشمل مصادرة الأراضي العامة، وإقامة المستوطنات عليها، ومصادرة أملاك الغائبين وتحويلها إلى جمعيات إسكان يهودية أو مؤسسات حكومية، وفرض الضرائب الباهظة على المساكن والمتاجر وغيرها. وأقامت إسرائيل 15 مستوطنة على أراضي مدينة القدسالشرقية بعد احتلالها، وطوقتها بثلاث كتل استيطانية هي «غوش عتصيون» التي تضم أربع عشرة مستوطنة، و «معالية أدوميم» التي تضم ثماني مستوطنات، و «غفعات زئيف» التي تضم أربع مستوطنات. كما قامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بالتعاون مع جمعيات استيطانية عديدة، بحملة للسيطرة على العقارات العربية وتحويلها إلى المستوطنين. ويبلغ عدد اليهود في البلدة القديمة من القدس أربعة آلاف مستوطن، منهم 2500 يعيشون في حارة اليهود، فيما وصل عدد المستوطنين في القدسالشرقية إلى 250 الفاً، وهو عدد قريب من عدد سكانها الفلسطينيين. وأقرت الحكومة الإسرائيلية العام الماضي خططاً لبناء 9600 وحدة سكنية جديدة في القدسالشرقية ضمن مساعيها الرامية إلى تهويد المدينة وجعل سكانها الفلسطينيين أقلية وسط غالبية يهودية، والحيلولة دون إعادتها إلى الفلسطينيين في أي حل سياسي مستقبلي. وتضمنت خطط البناء إقامة مستوطنتين جديدتين، الأولى شرقي المدنية، وتسمى «إي 1»، أي القدس الأولى، والثانية جنوبالمدينة، وتسمى «غفعات حمتوس». وتربط المستوطنة الأولى التي تضم 3600 وحدة سكنية، مدينة القدس بكتلة «معاليه أدوميم» الاستيطانية شرقي المدينة، وتفصل وسط الضفة عن جنوبها، فيما تكمل الثانية فصل مدينة القدس عن بيت لحم. وقال الخبير الإسرائيلي في البناء في القدس دانييل سيدمان، إن خطط البناء الجديدة في القدسالشرقية تساوي 20 في المئة من خطط البناء التي جرى تنفيذها في المدينة منذ احتلالها عام 1967. ورأى أن الهدف من وراء هذه الخطط هو «إنهاء فرص الحل السياسي مع الفلسطينيين». من جانبه، قال رئيس دائرة الخرائط في جمعية الدراسات العربية في القدس خليل توفكجي إن إسرائيل تعمل على تحقيق مشروعين استيطانيين كبيرين في القدس، الأول يسمى «القدس 2020» ويهدف إلى زيادة عدد اليهود في القدسالشرقية ليصبح أكبر من عدد الفلسطينيين، والثاني مشروع «القدس الكبرى» ويهدف إلى ضم 10 في المئة من الضفة.