أشارت إحصاءات حديثة إلى أن الاقتصاد الأميركي تمكن من تحقيق معدل نمو على أساس سنوي بلغ 2.5 في المئة خلال الربع الأول من العام الحالي، بعد أن كان 0.4 في المئة خلال الربع الأخير من العام الماضي. ومثّل ارتفاع الاستهلاك عنصراً مهماً في تحقيق هذا المعدل. وارتفعت مستويات الاستثمار في السكن الخاص، وحققت الصادرات الأميركية زيادات مهمة في الفترة ذاتها. كما خفض الإنفاق بنسبة 8.4 في المئة. لكن هل سيستمر هذا الزخم بعد أن تراجعت الوظائف الجديدة في آذار (مارس )؟. تشير هذه الأرقام إلى استمرار القلق في شأن الاقتصاد الأميركي، على رغم بيانات إيجابية. وهناك اقتصاديون لا يرون فيها ما يطمئن وتوصلوا إلى قناعات بأن معدل النمو لن يتسارع كثيراً ما لم تحسم الخلافات حول الموازنة الفيديرالية وحدود الدين العام، وتعتمد سياسات واضحة في شأن الضرائب على الدخل. هذه القضايا ظلت معلقة ما دفع إلى اتخاذ إجراءات تلقائية لخفض الإنفاق بمعدلات قد تصل إلى 85 بليون دولار لتشمل كل بنود الموازنة وقد تظهر أثارها خلال الصيف. ومنذ ثلاثينات القرن العشرين، وبعد أزمة الكساد العظيم، احتلت سياسة الإنفاق العام أهمية في الفكر الاقتصادي الأميركي، وأعتمد كثير من السياسيين طروحات جون ميراند كينز، الاقتصادي البريطاني الشهير. وطرح الرئيس الأميركي الراحل فرانكلين روزفلت برنامج «العهد الجديد» (New Deal) لدفع الاقتصاد للانتعاش من خلال زيادة الإنفاق، خصوصاً على البنية التحتية والمرافق والخدمات، ما يتناقض مع فلسفة الاقتصاديين الكلاسيكيين الذين ظلوا معادين للأفكار التي تروج لتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية. ولا يزال كثير من رجال السياسة والاقتصاد يدفعون من أجل خفض الإنفاق ولجم التوسع في البرامج الاجتماعية. لكن دور الإنفاق العام في الحياة الاقتصادية أصبح هيكلياً، ولم يعد في الإمكان تقليصه كما يطالب المحافظون، إذ ربما يؤدي ذلك إلى تراجع قدرة القطاعات الاقتصادية على خلق فرص عمل جديدة، أو اضطرار مؤسسات إلى إلغاء وظائف، ما يرفع معدل البطالة. ولا شك في أن إدارة الرئيس باراك أوباما لن تتنازل عن البرامج الاجتماعية. كما أنها تريد أن ترفع الضرائب على الفئات الميسورة بدلاً من خفض الإنفاق الهادف لحماية مصالح الفقراء ومحدودي الدخل. وغني عن البيان أن سيطرة الحزب الجمهوري على مجلس النواب، والحزب الديموقراطي على مجلس الشيوخ، تجعل من توافق المشرعين حول الموازنة الفيديرالية وبنودها وقضايا العجز والدين العام، مسألة مستعصية. هل يمكن أن يؤدي التحسن النسبي في أداء الاقتصاد الأميركي إلى تعافي الاقتصاد العالمي؟ يتوقع صندوق النقد الدولي أن يبلغ معدل نمو الاقتصاد العالمي 3.3 في المئة خلال العام الحالي. ويؤكد أن هناك تحسناً ملموساً في الأوضاع المالية بعد أن اتبعت سياسات نقدية ملائمة ومؤاتية من قبل «المركزي» الأميركي والبنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان. لكن هناك أزمة قائمة في كثير من البلدان الأوروبية ولا يزال الاقتصاد الياباني يواجه تبعات الركود الطويل. وأظهرت بيانات البطالة أن نسبة العاطلين من العمل في إسبانيا بلغت 27 في المئة، وهو مستوى قياسي في بلد أوروبي. وخلال السنوات الأخيرة اعتمدت بلدان أوروبية كثيرة سياسات مالية تقشفية بعد أن واجهت أزمات الديون السيادية واضطرت لقبولها كي تتمكن من الحصول على دعم وتعويم من صندوق النقد والاتحاد الأوروبي. تبقى بلدان الاتحاد الأوروبي أصعب عناصر الأزمة في الاقتصاد العالمي وقد لا تتجاوز محنة الديون خلال هذا العام، وبات من المحتمل بروز مشكلات في بلدان عدة بعد التوافق على معالجة الأزمة القبرصية. إن السياسات الجديدة التي اعتمدت في البلدان الأوروبية، والتي قد لا تكون منشطة للنمو الاقتصادي وزيادة الاستثمار، لن تؤتي ثمارها إلا بعد مرور سنوات صعبة. الديون الحكومية نتجت من توسع في الإنفاق وتراخ في ضبط السياسات المالية خلال سنوات طويلة ومن دون توفيق في تنفيذ ما نصت عليه اتفاقات الوحدة النقدية. وإذا كان صندوق النقد يتوقع ارتفاع معدل النمو في اليابان إلى 1.5 في المئة، فإن ذلك قد يكون نتيجة لتبني سياسات مالية ونقدية تنشيطية. وتمكنت الحكومة اليابانية من خفض سعر صرف الين لتحسين مستوى الصادرات السلعية. ويحاول بنك اليابان أن يرفع معدل التضخم إلى 2 في المئة بعد أن ظل هذا المعدل متراجعاً لزمن طويل، بل أن أسعار السلع الرئيسية مثل المواد الغذائية تراجعت بنسبة 0.5 في المئة خلال السنة المالية المنتهية في آذار الماضي. ويبدو أن الاقتصاد الياباني بعد أكثر من عشرين سنة من الركود يواجه مشكلات أهمها ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب وتزايد أعداد كبار السن، ما يعرقل نمو الاستهلاك السلعي والإنفاق على الخدمات. وتخطط الحكومة لزيادة ضريبة المبيعات إلى 10 في المئة من أجل توفير الأموال لمواجهة التزامات المتقاعدين ونظام التأمينات الاجتماعية. هذه الزيادة تهدف، أيضاً، لخفض مستوى الدين العام الذي وصل إلى 220 في المئة من الناتج عام 2012، بموجب البيانات الرسمية، كذلك فإن عجز الموازنة بلغ 10 في المئة من الناتج. لذلك فإن تعافي الاقتصاد الياباني يعتمد كثيراً على معالجة مسألة الديون وخفض العجز. هذه الأوضاع في الاقتصادات الرئيسية في العالم تتطلب معالجات منهجية، وربما طويلة الأمد. وعلينا أن ننتظر ما سيحدث فيها هذا العام، لنحكم على قدرة الاقتصاد العالمي على التعافي. كاتب متخصص بالشؤون الاقتصادية - الكويت