تبيّن تداولات أسواق النقد في الأسابيع الأخيرة أن سعر صرف الدولار آخذ في الارتفاع في مقابل العملات الرئيسة الأخرى، مثل اليورو والين الياباني والجنيه الاسترليني. ولا شك في أن عوامل اقتصادية عدة أدت إلى هذا الأداء المتحسن للدولار، فالأوضاع الاقتصادية الأوروبية لا تزال مقلقة، إذ تؤكد المؤشرات في البلدان التي تعاني مشكلات في الديون السيادية، ومنها اليونان وإيطاليا وإسبانيا والبرتغال، التباطؤ المستمر في معدلات النمو، وارتفاع مستويات البطالة، واستمرار الحكومات في انتهاج سياسات مالية متقشفة. ويُتوقع أن يؤكد المصرف المركزي الأوروبي توجهاً نحو خفض سعر الحسم عن مستواه الراهن وهو 0.75 في المئة، لأن هناك ضرورة لمزيد من التسهيلات في السياسة النقدية لحفز النشاط الاقتصادي. وبموجب إحصاءات جديدة قد ينكمش اقتصاد منطقة اليورو بمعدل 0.3 في هذا العام، ما سيزيد المعاناة الاجتماعية في البلدان الأعضاء. ولأن لا مناص للحكومات من الاستمرار في تبني سياسات مالية متقشفة، لا بد من أن يأتي الحفز عن طريق السياسات النقدية. وهكذا قد تزيد إعادة النظر المرتقبة في سعر الحسم من قبل المصرف المركزي الأوروبي، الضغط على سعر صرف اليورو الذي يتراوح حول 1.32 دولار، كما لا بد من أن يراهن المضاربون في أسواق النقد على الدولار. وجاءت الأخبار في اليابان لتؤكد استمرار ارتفاع العجز في الميزان التجاري والذي بلغ 17.5 بليون دولار في كانون الثاني (يناير). ويعتبَر هذا المستوى من العجز قياسياً لبلد مثل اليابان تمتع على مدى عقود عدة بفائض في الميزان التجاري، وهو كذلك أكبر عجز شهري منذ توافرت بيانات حول هذا الشأن في كانون الثاني 1979. وعلى رغم أن الصادرات اليابانية تحسنت في كانون الثاني فارتفعت بنسبة 6.4 في المئة عن مستواها في كانون الأول (ديسمبر)، فإن الواردات، خصوصاً من الوقود، لم تمكن من الاستفادة من ارتفاع الصادرات، على رغم أن انخفاض سعر صرف اليورو ساعد في تحسين الصادرات اليابانية. وتأمل الحكومة اليابانيةالجديدة في أن يرتفع معدل النمو الاقتصادي إلى اثنين في المئة هذا العام. وانخفض سعر صرف الين في مقابل الدولار منذ بداية العام بنسبة ثمانية في المئة وأكثر من 13 في المئة منذ مطلع كانون الأول، وهو يراوح حالياً حول مستوى 93 ين للدولار. وقد يؤدي هذا الخفض في سعر الين إلى مناوشات اقتصادية بين الولاياتالمتحدةواليابان، وهما شريكان تجاريان مهمان في الاقتصاد العالمي. وتأمل الولاياتالمتحدة في تحسين قيمة صادراتها إلى اليابان وخفض قيمة وارداتها منها، لكن ذلك يبدو مهمة صعبة إذ ارتفعت صادرات اليابان إلى الولاياتالمتحدة بنسبة 10.9 في المئة خلال كانون الثاني. ومن المؤكد أن اليابانيين يعملون على زيادة الصادرات من خلال سياسات نقدية تحفيزية نظراً إلى طبيعة الاقتصاد الذي يعتمد على التصدير ولا يمكن أن يعوض ذلك من خلال الاستهلاك المحلي. هل يمكن أن نزعم بأن الاقتصاد الأميركي يأخذ بالتعافي بما يعزز سعر صرف الدولار في أسواق النقد؟ لا تزال الأمور غير واضحة، فهناك من يرى أن ثقة المستهلكين غير مناسبة لرفع معدلات الإنفاق على السلع والخدمات، فيما ارتفعت مستويات التشاؤم بعد ارتفاع معدلات الضرائب على الدخل وبقاء أسعار مشتقات الوقود قابلة للارتفاع. ويمكن التأكيد على أن الأميركيين أصبحوا، ومنذ بداية الصدمة النفطية الأولى عام 1973، شديدي الحساسية تجاه أسعار الوقود، والبنزين تحديداً، نظراً إلى الاستخدام المفرط لعربات النقل الخاصة هناك. ولذلك تبقى مسألة التعافي في الاقتصاد الأميركي ضبابية في أحسن الأحوال ما لم تتمكن حكومة الرئيس باراك أوباما من اتباع خطوات فاعلة في حفز نشاط القطاعات الحيوية وأهمها قطاع الإسكان الذي تضرر خلال السنوات الخمس الماضية. ويعتبَر مؤشر مبيعات السكن في الولاياتالمتحدة من أهم المؤشرات الاقتصادية، وتشير الإحصاءات إلى أن مبيعات السكن الخاص ارتفعت بنسبة 0.4 في المئة خلال كانون الثاني عن مستواها في كانون الأول، ما يشير إلى إمكانية وصول مبيعات السكن إلى 4.9 مليون وحدة هذا العام. ويعتبَر هذا التحسن في المبيعات الأفضل منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2009. يتبين مما سبق ذكره أن اقتصادات البلدان الصناعية الرئيسة لا تزال في مخاض التحول من الركود الهيكلي إلى الانتعاش النسبي، وهذا التحول يتطلب معالجات من قبل الإدارات السياسية. فهل ستقدم قمة الدول الثماني المقبلة على تبني معالجات أو سياسات حفز مناسبة؟ إن هذه الدول تسعى من أجل التوفيق بين متطلبات ترشيد الإنفاق وما يمليه من اتباع سياسات مالية متقشفة، كما هي الحال في بلدان منطقة اليورو، ومتطلبات خلق فرص عمل وحفز النشاط الاقتصادي، وهي سياسات قد تقدم عليها اليابان. ليست الأمور يسيرة وستظل الأوضاع غير واضحة الاتجاه حتى تتمكن البلدان الأوروبية من استيعاب السياسات المالية الهادفة إلى معالجة الديون السيادية. وستكون السياسات المالية والنقدية والتعديلات المحتملة عليها ذات آثار سلبية على أسواق النقد وأسعار صرف العملات الرئيسة. وقد يستمر ارتفاع سعر صرف الدولار مستفيداً من الأوضاع الأوروبية والأوضاع اليابانية إلى حين، وقد تؤدي عمليات الانتعاش النسبية في القطاعات الحيوية في الاقتصاد الأميركي إلى تماسك سعر العملة الأميركية. لكن هل يمكن المراهنة على ذلك لأمد طويل، خصوصاً فيما المضاربون في أسواق النقد يعتمدون في الشراء والبيع على عوامل الأجل القصير؟ * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت