ربما كانت بيانات الوظائف الأميركية في الشهر الماضي مناسبة للتفاؤل في الولاياتالمتحدة حيث زاد عدد الوظائف 163 ألف وظيفة على رغم استمرار معدل البطالة عند 8.3 في المئة. لكن هل يمكن أن تكون هذه البيانات كافية لتشجيع رجال الأعمال على توظيف مزيد من الأموال في أعمالهم وقطاعاتهم المختلفة؟ لا يبدو أن الأمر كذلك إذ يقدَّر أن معدل النمو الاقتصادي الأميركي خلال هذا العام لن يتجاوز 1.5 في المئة، فيما لا يزال المستهلكون غير متحمسين كثيراً لزيادة مشترياتهم ومقتنياتهم أو الإنفاق على الخدمات المتنوعة. ولم تؤدِّ تخفيضات الضرائب والمدفوعات الحكومية إلى تحسين مستوى الاستهلاك العائلي في شكل كبير نظراً إلى غياب ثقة المستهلكين في متانة الاقتصاد. وغني عن البيان أن استمرار العجز في الموازنة الفيديرالية والاضطرار إلى خفض النفقات على المستوى الفيديرالي ومستوى الولايات لن يؤدي إلى تحسين القدرات الإنفاقية لدى المؤسسات الحكومية. ومما لا شك فيه أن مسألة العجز في الموازنة باتت قضية مهمة في الصراع السياسي الدائر في الولاياتالمتحدة حيث يرى الجمهوريون المحافظون ضرورة ضبط إيقاع الإنفاق من دون رفع الضرائب، بينما يرى الديموقراطيون ومستشارو الرئيس باراك أوباما أهمية رفع الضرائب على الفئات الثرية التي يجني أفرادها أكثر من 250 ألف دولار سنوياً. ولذلك ترى الإدارة الأميركية الحالية ضرورة إلغاء التخفيضات الضريبية التي اعتمدت في عهد الرئيس جورج بوش الابن. وفي خضم الحملة الانتخابية الرئاسية والجدل الدائر بين حملتي أوباما وميت رومني، يظل الأميركيون حيارى حول أي فلسفة مالية تتوافق مع الإنعاش الاقتصادي. ولا بد أن الأزمة المالية في منطقة اليورو ستظل مؤثرة في الاقتصاد الأميركي فالبلدان الأوروبية ذات أهمية للصادرات الأميركية. ومثّلت الصادرات الأميركية إلى الاتحاد الأوروبي أكثر من 27 في المئة من الإجمالي، كمتوسط خلال السنوات الماضية، علماً أن القيمة الإجمالية للصادرات الأميركية قاربت خلال العام الماضي 1.3 تريليون دولار. وعلى رغم أهمية سوق الصادرات، يعتمد الاقتصاد الأميركي بدرجة عالية، على الاستهلاك المحلي، وهو بذلك عكس الاقتصادات الأوروبية والاقتصاد الياباني والاقتصاد الصيني المعتمدة بدرجة مهمة على الصادرات. ثمة، إذاً، أهمية لتشجيع المستهلكين الأميركيين على إنفاق أموال على سلع وخدمات لتنشيط الحركة الاقتصادية، ولذلك يعتمد النظام المصرفي في الولاياتالمتحدة على الائتمان الاستهلاكي في تعزيز نموه. ويقدَّر الاستهلاك الشخصي في الولاياتالمتحدة بأكثر من 9.5 تريليون دولار عام 2012، ما يمثل 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ولذلك يظل أي انتعاش في الاقتصاد مرهوناً بتحسن الاستهلاك الشخصي وارتفاع ثقة المستهلكين بإمكانيات تحسين دخولهم. وكذلك تعتمد متطلبات الانتعاش على قدرة الاقتصاد على تفعيل التوظيف وزيادة أعداد العاملين. وتظل آمال السياسيين الأميركيين في قدرة الاقتصاد على تطوير إمكانياته معلقة على الاستفادة من المخزون البشري الكبير والمتزايد، فالمجتمع الأميركي لا يزال لأسباب منها الهجرة، ينمو ديموغرافياً بوتيرة أسرع من بقية المجتمعات الصناعية، على رغم انخفاض المعدل السنوي لنمو السكان ما بين 2009 و2011 من 1.0 إلى 0.7 في المئة. لكن قوة العمل في المجتمع السكاني الأميركي لا تزال كبيرة، وهي تشمل السكان البالغين الذين تتراوح أعمارهم ما بين 16 و65 سنة، أو 63.5 من السكان، بمقدار 132 مليون شخص، باستثناء العاملين في الزراعة. ولذلك أضحت تنمية الأعمال وتوسيع فرص العمل قضايا هيكلية منذ عقود، ومن ثم يؤرق أي ارتفاع في أعداد العاطلين من العمل الإدارات السياسية مهما تباينت رؤاها الاقتصادية. بيد أن التطورات التي مر بها الاقتصاد الأميركي منذ منتصف القرن الماضي دفعت كثيراً من النشاطات إلى التراجع أو التلاشي، إذ أصبحت كلفة الإنتاج في العديد من الصناعات التحويلية باهظة وغير مجدية اقتصادياً ولم تعد هناك ميزات نسبية لها. وبات الأميركيون يفضلون استيراد السلع والبضائع من الخارج، من الصين واليابان وكوريا الجنوبية، لما تتميز به هذه المنتجات من نوعية ملائمة وأسعار تنال رضا المستهلك الأميركي. لذلك ازدادت مشكلات العديد من الشركات الصناعية واضطرت إلى إنهاء عمل العديد من عامليها. وتمكن كثير من تلك الشركات من جعل السياسيين يتبنون سياسات حمائية تعزز إمكانيات المنافسة في الولاياتالمتحدة مع المنتجات المستوردة. مؤكد أن السياسات التي اعتمدها أوباما في بداية عهده، والذي صادف بداية الأزمة الاقتصادية أو المالية في الولاياتالمتحدة ثم العالم، آتت أُكلها ومكنت من حماية عدد من المؤسسات المالية والصناعية. ووظِّفت أموال دافعي الضرائب في تعويم عدد من المؤسسات لكن على أسس ومعايير اقتصادية ملائمة، كما روجعت السياسات المالية والنقدية وفعِّلت الرقابة على التمويل والتعاملات في الأسواق المالية. ودفع اعتماد سياسات إنفاقية ذات توجهات اجتماعية مثل سياسة الضمان الصحي، السياسيين المحافظين إلى الهجوم على سياسات أوباما وكيل اتهامات غير مقنعة له. بيد أن تلك السياسات وإن زادت من التكاليف على الموازنة الفيديرالية، عززت التوازن المجتمعي ودفعت الفئات ذات الدخول المتوسطة والمحدودة إلى الأمل بمستقبل أفضل لأبنائها. وغني عن البيان أن الأزمات الاقتصادية في الولاياتالمتحدة منذ أزمة الكساد الكبير عام 1929، دفعت الإدارات إلى مراجعات منهجية للتوجهات الاقتصادية والفلسفات الاجتماعية التي تحكمها ما عزز الاستقرار وحمى النظام الرأسمالي. ولا بد من متابعة ما سينتج من الانتخابات الرئاسية والتشريعية في تشرين الثاني (نوفمبر) لاستشراف رؤية واقعية في شأن التوجهات الاقتصادية خلال السنوات الأربع المقبلة في الولاياتالمتحدة. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت