تمكن الأميركيون في الساعات الأولى من العام من تجاوز ما أطلقوا عليه «الهاوية المالية» فاتفق الديموقراطيون والجمهوريون على تطبيق سياسات ضريبية جديدة وتأجيل موقت لاستقطاعات في الإنفاق الحكومي. وكانت مشكلة سقف الدَين ذات أهمية موضوعية إذ بلغ الدَين الناشئ من الاستدانة لتمويل عجز الموازنة 16.4 تريليون دولار. ورفعت زيادة العجز في الموازنة الدَين العام إلى مستويات تفوق الناتج المحلي الإجمالي. وكان لا بد من أخذ موافقة مجلسي النواب والشيوخ على رفع هذا السقف. وبدت المعركة السياسية بين الرئيس الديموقراطي باراك أوباما وقادة الجمهوريين في الكونغرس ذات بعد اجتماعي - سياسي إذ أصر الرئيس على رفع الضرائب على الفئات الأغنى التي لا تمثل أكثر من اثنين في المئة من الأميركيين بهدف زيادة الإيرادات وخفض العجز في الموازنة الفيديرالية. لكن الجمهوريين زعموا أن مشكلة الموازنة ليست في الإيرادات وإنما في النفقات غير الرشيدة، خصوصاً النفقات الاجتماعية، إذ زادت مخصصات البطالة، والأسر الفقيرة، ونظام التعليم، ونظام الرعاية الصحية الذي اعتمِد في عهد أوباما. وأراد أوباما أن يزيد الضرائب على الأفراد الذين يجنون أكثر من 400 ألف دولار سنوياً. وكان الرئيس جورج بوش الابن خفض الضرائب على فئات اجتماعية عديدة بموجب فلسفة اقتصادية ترى بأن خفض الضرائب على الفئات الميسورة يمكنها من توظيف جزء مهم من أموالها في استثمارات أو أعمال جديدة أو توسيع نشاطاتها بما يؤدي إلى إيجاد فرص عمل ورفع مستويات النشاط في مختلف القطاعات الاقتصادية. إذا تمعنا أكثر في معنى الاتفاق الذي أدى إلى تفادي «الهاوية المالية»، يتبيّن أن الإنفاق الفيديرالي سيقفز إلى 22.7 من الناتج في حين لا تزيد الإيرادات الفيديرالية والمعتمدة أساساً على الضرائب أكثر من 16.6 في المئة من الناتج. وهذا يعني أن العجز في الموازنة قد يتراوح بين 850 بليون دولار وأكثر قليلاً من تريليون دولار. وسيؤدي الاتفاق إلى رفع نسبة الضرائب على المداخيل الفردية التي تتجاوز 400 ألف دولار والأزواج الذين تزيد مداخيلهم السنوية على 450 ألف دولار من 35 في المئة من الدخل إلى 39.6 في المئة. ولم يحدد الاتفاق مصير الاستقطاعات الإنفاقية، فالقرار في شأنها أُجِّل شهرين. وكان لهذه الاستقطاعات المتفق في شأنها عام 2011 أن تؤدي إلى توفير 1.2 تريليون دولار خلال عقد من الزمن. ولم يحدد الاتفاق الحد الأقصى للدَين العام ما يعني أن معركة سياسية أخرى قد تحتدم بعد أشهر حول هذه القضية ما يبقي الاقتصاد الأميركي عند حافة «الهاوية المالية». وقد يؤدي عدم الاتفاق على استقطاعات الإنفاق الفيديرالي إلى زيادة الدَين العام بواقع أربعة تريليونات دولار خلال العقد المقبل بسبب استمرار العجز القياسي في الموازنة. ولا بد لهذه الأرقام المذهلة من أن تزيد احتياجات التمويل في الولاياتالمتحدة وتدفع الحكومة إلى إصدار مزيد من السندات والأذون وبيعها إلى الزبائن التقليديين من حكومات ومؤسسات مالية بما يزيد انكشاف دول الزبائن على الديون السيادية الأميركية. وفي مقابل هذه المعركة السياسية في الولاياتالمتحدة حول السياسات المالية يبدو أن الاقتصاد الأميركي أخذ بالتعافي، فالبيانات الرسمية تشير إلى أن الناتج نما بنسبة 3.1 في المئة سنوياً في الفصل الثالث من 2011، متخطياً توقعات العديد من المراقبين الاقتصاديين في الولاياتالمتحدة وخارجها، علماً بأن معدل النمو للناتج خلال الفصل الثاني لم يزد على 1.3 في المئة. ويعزى الارتفاع إلى زيادة الإنفاق الرأسمالي وزيادة المخزون السلعي وارتفاع الاستثمارات في قطاع الإسكان وزيادة الإنفاق الحكومي. ويؤكد انخفاض معدل البطالة إلى 7.7 في المئة أن مسيرة تعافي الاقتصاد الأميركي تبدو واعدة، على رغم معارك الموازنة والضرائب. ولا شك في أن تعافي الاقتصاد قد يؤدي إلى تحسن في إيرادات الضرائب التي ستكون على مداخيل شخصية وأرباح مؤسسية أفضل. ولا يعني ذلك أن الأوضاع الاقتصادية الأميركية أصبحت وردية ولا تدعو إلى القلق، فثمة مسائل كثيرة تتطلب معالجات، منها استمرار تصاعد الواردات والتي تربو على 2.5 تريليون دولار سنوياً، في مقابل صادرات لا تزيد على تريليوني دولار، ما يعني أن الميزان التجاري يسجل عجزاً لا يقل عن 500 بليون دولار سنوياً. قد تتوصل القيادات السياسية في الحزبين خلال هذا العام أو الأعوام المقبلة إلى تفاهم تاريخي في شأن الإنفاق والضرائب يؤدي إلى استقرار مبدئي ويبعد خطر الاقتراب من حافة «الهاوية المالية» كل عام. ولا ريب في أن الرئيس أوباما سيكون في السنوات الأربع المقبلة أكثر تحرراً في تقويمه للمسائل ذات الصلة فلن يكون محكوماً بالاعتبارات الانتخابية وقد يتواصل مع القادة الجمهوريين في شكل أفضل حتى يتمكن الأميركيون من التوافق على فلسفة إنفاق وسياسات ضريبية أكثر عدالة، ولا تكون في الوقت ذاته مؤذية للمستثمرين ورجال الأعمال. وبعثت ملامح الاتفاق في بداية هذا العام آمالاً في أوساط مجتمعات الأعمال في مختلف البلدان الرئيسة وعززت القناعة بقدرة النظام السياسي في الولاياتالمتحدة على مواجهة المعضلات الاقتصادية والمالية باقتدار وموضوعية. لكن هذه الأوساط تطمح إلى توافقات أكثر التزاماً ودقة في شأن السياسات المالية الأميركية. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية - الكويت