للمرة الثانية خلال أقل من أربعة أشهر، تُكافئ مدينة دبي المخرجة السعودية هيفاء المنصور. في المرة الأولى، انتزعت جائزة أفضل فيلم وأفضل ممثلة عن فيلمها الروائي الطويل الأول «وجدة» في «مهرجان دبي السينمائي» في كانون الاول (ديسمبر) الماضي. وفي المرة الثانية، ها هي تتسلم جائزة أفضل فيلم خليجي ل «وجدة» نفسه، وشهادة تقدير لبطلته ليل أول من أمس من «رئيس هيئة دبي للثقافة والفنون» الشيخ ماجد بن محمد بن راشد آل مكتوم. واللافت أن المنصور التي حملت مشروع فيلمها قبل سنوات الى «مهرجان الخليج السينمائي» من خلال «سوق سيناريو الأفلام الخليجية»، عادت اليه مجدداً بالفيلم ذاته لتحصد جائزة المهرجان الكبرى. وإذا كانت الجائزة الأولى من نصيب السعودية، فإن حفلة الاختتام اتسمت أيضاً بتفوق كردي، خصوصاً مع فوز فيلم «بيكاس» بثلاث جوائز (لجنة التحكيم الخاصة وأفضل مخرج وشهادة تقدير لبطليه). كما فاز الفيلم الصيني-البريطاني «فتاة عرضة للخطأ» بالجائزة الثانية وفيلم «مطر وشيك» للمخرج العراقي الإيطالي حيدر رشيد بالجائزة الثالثة. في فلك الهجرة باستثناء فيلم «وجدة» الذي يقدم قصة من عمق المجتمع السعودي حول فتاة تحلم باقتناء دراجة، دارت الأفلام الفائزة بجوائز مسابقة الأفلام الخليجية الطويلة كلها في فلك الهجرة. فمن أسئلة الهوية والانتماء، الى الحلم بغد أفضل في بلاد العالم الأول وصعوبة الاندماج والتأقلم، عبّرت الشرائط الثلاثة، بشفافية ورهافة، عن مشاكل تتراوح بين الاستسلام والكفاح حتى الرمق الأخير، طالما أن الخسارة واقعة لا محالة، وطوق النجاة أشبه بالحلم المستحيل. فماذا لو أتى يوم أصبحت فيه فجأة غير مرحّب بك في «وطنك»؟ ماذا لو كان هذا «الوطن» الذي لا ترى سواه وطناً، لا يعترف بمواطنتك على رغم أنك ولدت وترعرعت فيه؟ ماذا لو كنت مهاجراً جزائرياً من الجيل الثاني تعيش حياة طبيعية في إيطاليا مثل أي شاب آخر، واستيقظت ذات يوم على خبر وجوب مغادرة بيتك وحبيبتك وحياتك لتعود الى بلد تحمل جنسيته من دون أن تحمل شيئاً منه في قلبك؟ ماذا لو تلقيت صفعة على وجهك باكتشافك أن ما تعتبره وطناً ليس إلا منفى قد يلفظك خارجه مثلما لفظ وطنك الأصلي أبويك من قبلك؟ ماذا لو قاومت وأثبتّ للجميع أن الوطن هو ذاك الذي تختاره لا ذاك الذي تحمل جنسيته؟ أسئلة كثيرة حاصرت بطل المخرج الإيطالي-العراقي حيدر رشيد في فيلم «مطر وشيك» بعدما فقد والده، المهاجر الجزائري، عمله في المصنع نتيجة انتحار ربّ العمل، فوجدت العائلة نفسها عاجزة عن تجديد تصريح الإقامة للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً. وليست صدفة أن يحمل بطل الفيلم اسم «سعيد مهران» في إحالة الى بطل نجيب محفوظ في «اللص والكلاب». ف «سعيد مهران» في الفيلم يشبه «سعيد مهران» عند شيخ الرواية العربية. ومثلما تنكّر أقرب الناس الى بطل محفوظ بعد خروجه من السجن، تنكّر «الوطن الحبيب» الى بطل حيدر رشيد، فكان قرار الترحيل الى الجزائر أشبه بحكم الإعدام. «أنا إيطالي أكثر منك»، يقول «سعيد» لصديق إيطالي يذكّره بجذوره. لكنّ حب الفتى العشريني الكبير لإيطاليا وتعلّقه بالنشيد الوطني وشغفه بكرة القدم الإيطالية، لم تشفع له في ظل قانون قائم على مبدأ «الأحقية بالدم»... وبالتالي لا يمكن أن يكون «سعيد مهران» إيطالياً حتى لو لم يعرف بلداً آخر موطئ قدم. لكنّ بطلنا لا يستسلم، بل يتصدى لرضوخ والده لقرار العودة الى الجزائر، ويصيح في وجهه: «هذا هو وطنك (إيطاليا)، لا ذاك الذي تركته قبل 30 عاماً». وإيماناً بهذه الكلمات، يقود بطلنا الحرب حتى النهاية ضد القانون الجائر بحق المهاجرين الجدد، بالاتكاء على حملة إعلامية وسياسية، تقوده للنصر وإن أمكن القول إنه انتصار ظل عالقاً في منتصف الطريق طالما أن القانون لم يتغير. وعلى هذا النحو ينجح «سعيد» في الجولة الأولى من المعركة وإن خسرها أبوه بعد صدور قرار بمغادرته الأراضي الإيطالية مقابل بقاء ولديه. ولا شك في أن حيدر رشيد لم يكتب نهاية لفصول هذه الحرب بعد، بل ستكون له جولات مع هذا القانون بعد نزول فيلمه في الصالات الإيطالية. فهو، وإن لم يعش معاناة الجنسية، بما انه من أم إيطالية وأب عراقي، غير أنه يعرف جيداً المصاعب التي تواجه الجيل الثاني من المهاجرين. وهو، مثله مثل أي شاب من أقرانه تتنازعه أسئلة الهوية والانتماء، حتى وإن كان مندمجاً في مجتمعه الى أبعد ما يكون. من هنا لم يكن غريباً أن يحمل رشيد هذه الأسئلة الى الشاشة الكبيرة ليرسم معاناة آلاف الشبان المهاجرين الذين يقيمون من دون جنسية في إيطاليا على رغم انهم ولدوا وترعرعوا فيها... وقد استطاع المخرج أن يترجم ذلك، في لقطات الكاميرا المقربة التي دنت كثيراً من عيني «سعيد مهران» وكأنها تخترق دواخله، في إشارة الى أن العيون مفتاح الهوية. بين سوبرمان وصدام اختراق العيون شكّل أيضاً سمة فيلم «بيكاس» (بلا عائلة) للمخرج الكردي كرزان قادر. ففي عيني بطليه الطفلين «دانا» و «زانا»، اختزال لكل المعاناة والغطرسة والإجرام التي صادفها الأكراد في عراق صدام حسين. نحن هنا في كردستان العراق في تسعينات القرن العشرين أمام طفلين كرديين يتيمين يحلمان بالسفر الى أميركا؟ لماذا أميركا؟ للبحث عن الحلم الأميركي بل ويا للمفاجأة عن سوبرمان؟ وبما ان عالم الطفولة لا يعرف المستحيل، ينطلق الأخوان على صهوة حمار في رحلتهما التي لا تعرف حدوداً أو منطقاً، أملاً بملاقاة البطل الخارق ليخلصهما من الأشرار. والأشرار هنا هم في الدرجة الأولى صدام حسين وحاشيته، وفي الدرجة الثانية مواطنون يسيئون الى الطفلين، فيدرجهم الأخ الأصغر على رأس قائمته السوداء. هي رحلة تقود المشاهد الى فيلم طريف عن الحب والأمل والبراءة الأولى في مواجهة الكراهية والتعصب والعنف، حاملاً في طياته القسوة واللين، الشغف والإحباط، العزم والخيبة... قبل أن تتكسر أحلام الطفولة على صخرة السياسة. واللافت أن «بيكاس» وعلى رغم دنوه من مرحلة سياسية سوداوية، لم يغرق في وحولها، حتى وإن أخذ بعضهم عليه «عنصرية» ما في تصوير مواطنين عرب لا يعرفون الرحمة في تعاملهم مع طفل كردي يطلب المساعدة بعدما ظنّ أن شقيقه وقع في شرك لغم أرضي. ولا يخفي المخرج الذي غادر كردستان العراق في السادسة من عمره أن كثيراً من أحداث الفيلم استقاها من ذكرياته الشخصية قبل ان تستقر عائلته في السويد. وقد يكون في هذا، السرّ الذي جعل الفيلم مرهفاً وشفافاً بما لا يحمل تأويل. ولا عجب بتجاوب الجمهور الكبير معه، سواء أثناء عرضه في مهرجان الخليج أو قبله في دبي حيث نال جائزة الجمهور من دون أن ننسى الإيرادات الكبيرة التي حققها في الصالات في كردستان. هجرة معاكسة وإذا كانت السينما العربية قد اعتادت تصوير أحلام الهجرة الى الغرب، فإن فيلم كونراد كلارك «فتاة عرضة للخطأ» (فاز بالجائزة الثانية)، يقدم بقسوة هجرة معاكسة. هنا نحن في دبي أمام فتاتين صينيتين تحلمان بغد أفضل، فتنشئان مزرعة فطر في الصحراء بالمال الذي جنتاه من عملهما في ملهى ليلي. لكنّ الأحلام تتخبط على ارض الواقع، ولا تتمكن الفتاتان من الصمود، فتواصل إحداهما عملها السابق في الملهى، فيما تتشبث الثانية بالحلم وتحاول المستحيل لإنقاذ المزرعة، وعبثاً تفعل. وسرعان ما تهبط عليها المصائب دفعة واحدة. فبعد أن يتركها حبيبها ويسافر الى الخارج، تصلها رسالة من مسقط رأسها حول ضرورة العودة الى الديار بسبب مرض أحد أفراد أسرتها. ولكن ماذا تستطيع أن تفعل والديون تتآكلها من كل حدب وصوب؟ تقرر ان تبيع سيارتها ولكن من دون فائدة. تتخلى عن شروطها السابقة حول مشروع للمزرعة مع رجل أعمال طماع، لكنّ الأخير يعدل عن المشروع. تقرع كل الأبواب، ولكن من دون جدوى، لتجد نفسها في وحشة واغتراب عرفت كاميرا المخرج البريطاني كيف تعبّر عنهما بحذاقة. أما دبي التي يصورها الفيلم فلا تشبه في شيء دبي التي نعرفها بعصريتها وناطحات سحابها. هنا تجول الكاميرا في شوارع ضيقة تكتظ بالعمال الأجانب، وكأننا في باكستان أو الهند، ما يعكس الوجه الآخر لدبي. وجهاً كشفه الفيلم بكاميرا بدت متخبطة معظم الوقت وكأنها تشي بتخبط الأحلام الصغيرة في زحمة الفرص الضائعة.