حين تهتز الكاميرا في جزء أساسي من فيلم من الأفلام، يكون الأمر واحداً من اثنين: إما أن الأمر مقصود كوسيلة سينمائية يعبّر من خلالها صاحب الفيلم عن ان ثمة اهتزازاً في الواقع، في رؤيتنا له وفي علاقتنا به... وإما أن هناك خطأ تقنياً لم يكن من الضروري الا يتنبه اليه المخرج. كثر أخذوا على فيلم «المحنة» للمخرج العراقي الشاب حيدر رشيد اهتزاز الكاميرا في مشاهد كثيرة. اختلط الأمر عليهم، وركزوا على «الخطأ التقني»... لكن الفيلم اوضح في النهاية: إنه اهتزاز مقصود. والحقيقة ان كل الفيلم انما صيغ كي يعبّر عن هذا الاهتزاز: اهتزاز المنطق والمجتمع والنفوس الإنسانية من حولنا. اهتزاز القناعات والشعور بالانتماء. حيدر رشيد المخرج العراقي الشاب المولود في فلورنسا (من أم إيطالية)، أمضى سنوات من عمره يمارس التصوير السينمائي. والآن حين حقق فيلمه الروائي الطويل الأول بعد أفلام وثائقية وكليبات موسيقية، عرف - بالتأكيد - كيف يجعل الشكل مضموناً... وعلى الأقل في تلك المشاهد، في محاولة لتجسيد النزاع الداخلي الذي يعيشه بطل فيلمه الممزق الهوية. فهو مثل حيدر شاب عراقي يعيش في لندن. وهو، مثله أيضاً، مأسور بالعبث الذي يسيطر على وطنه الأم، حتى وان كان عاش حياته كاملة في بلاد الاغتراب، ولا يعرف عنه الا ما سمعه من أبيه، أو ما شاهده في نشرات الأخبار من مشاهد القتل والدمار. ولم تكن صدفة أن يهدي رشيد فيلمه الى روح الكاتب العراقي كامل شياع الذي قُتل قبل سنتين بعدما عاد من غربته الى العراق. خصوصاً ان قصة الفيلم تدور حول تخبطات إبن كاتب عراقي قُتل والده في بغداد التي عاد إليها بعد انهيار النظام السابق. ولا شك في ان هذا الشريط، وان كان يعكس التخبطات النفسية التي يعيشها العراقي بعيداً من وطنه، إلا انه، لا يغيب عن رسم المأساة التي يعيشها العراق، ولكن من دون ان يفرط في التركيز على مشاهد القتل والدماء. لا بل على العكس، تغيب الحرب عن هذا الشريط، لتترك مكانها للإنسان، وعلاقاته بمحيطه. وهو اتجاه بدأ سينمائيون عراقيون شبان يسلكونه بعدما اكتظت الشاشات بمشاهد الاقتتال، في إهمال واضح للفرد العراقي. فالبطل هنا، شخصية سوداوية غارقة في الحزن على كل الجبهات. وبموازاة التخبط الذي يواجهه في حسم أمره ونشر كتاب عن والده علّه يجد فيه العزاء ويصل الى نوع من المصالحة مع الذات، يواجه مشكلة في حسم موقفه من حبّه، من طرف واحد، لأفضل صديقة لديه. وهنا بالذات بدا الفيلم وكأنه ضلّ الطريق. إذ اختلطت المشاعر، وتاه المشاهد بين قصتين: الوطن والحبيبة. كثر لم يفهموا سبب إقحام قصة الحب هذه في شريط يحكي عن تمزق الهوية، خصوصاً انها شغلت مساحة لا بأس بها من طول الشريط، قد تصل الى نصفه... ولكن ألا يمكن ان تكون الحبيبة تجسيداً لوطن لم يطأه حيدر يوماً؟ تزداد هذه القناعة حين نعرف ان خط الفيلم (مقتبس عن مسرحية قصيرة للكاتب براد بويسن) الرئيس كان يدور حول علاقة الحب هذه، ولكن «إحساس المخرج بعراقيته»، كما يقول، جعله لا يغضّ الطرف عن المأساة العراقية. وهنا، مثلما أحب العراق من طرف واحد، بما ان هذا البلد يلفظ ابناءه بعيداً منه، كان حبه لصديقته الفنانة التشكيلية من طرف واحد. أياً يكن الأمر، بدا هذا الشريط اميناً لنظرة المهاجرين العراقيين من الجيل الثاني، الممزقين بين هويتين. فهم مندمجون في بلاد منحتهم الأمان والاستقرار اللذين يفتقدانهما في بلدهم الأصلي. وفي المقابل لا يزال خيط يربطهم بوطنهم الام، تدعمه حكايات الآباء الجميلة. من هنا لم تنتصر قصة على أخرى. إنما آثر رشيد ان يوازن بين الاثنين: انتماؤه الى لندن وتوقه للعراق. وعلى رغم العدد الكبير نسبياً من الدول المشاركة في إنتاج هذا الفيلم (بريطانيا، العراق، ايطاليا، الإمارات) الا انه حقق بموازنة صغيرة جداً، وبفريق عمل شبه مجاني... ومثلما واجه شريط رشيد صعوبة في الإنتاج، يواجه اليوم، صعوبة في التوزيع. فبعد العرض الاول للفيلم ضمن تظاهرة «ليالي عربية» في مهرجان دبي السينمائي، ينتظر رشيد موزعاً يعرض الفيلم في الصالات... وحتى ذلك الوقت، يستعد للمشاركة في مسابقة مهرجان الخليج.