الأرجح أن أميركا ما بعد أزمة خبير المعلوماتية إدوارد سنودن، ليست كأميركا ما قبل تلك الفضيحة المدويّة. واستطراداً، يشبه ذلك ما ذهبت إليه مجلة «فورين أفيرز» في أكثر من عدد لها، من أن الديبلوماسيّة الأميركية والدوليّة بعد وثائق «ويكيليكس» المرتبطة باسم الهاكر الدولي جوليان أسانج، هي غير ما كانته قبلها. ربما ليس مبالغة القول إن تغيير الأزمنة وأحوالها لا يجري بضربة عصا سحريّة، على طريقة قصص المردة والجان، بل إنه أمر ينجز بأشياء تبدو صغيرة، لكنها تتواصل وتتراكم وتتفاعل إلى أن تحدث تغييراً ما، أو يذهب أمرها سدىً. والأرجح أن ما فعله سنودن وأسانج لم يذهب سدىً لحد الآن. ربما لا يضجّ أمره بالصخب نفسه الذي يرافق أحداثاً أشد فوراناً وعنفاً وقسوة، كالضرائب والبطالة وأزمة الاقتصاد (المال عنصر حاسم دوماً في الانتخابات الأميركيّة)، واستقلالية أميركا عن نفط الشرق الأوسط (وهو مطلب ارتفع شأنه منذ أزمة النفط في أعقاب حرب تشرين أول/ أكتوبر 1970)، ومجازر «داعش» ومدى نجاعة السياسة الخارجية وغيرها. ولا يعني ذلك أن ما يتّصل بشأن المعلوماتية والاتصالات، لا يمثّل جزءاً من اهتمامات المواطن الأميركي، ولو جزئيّاً. معارك الجبهة الإلكترونيّة الأرجح أن تفجّر فضيحة التجسّس الإلكتروني العالمي الذي تمارسة «وكالة الأمن القومي» National Security Agency، حاضر في بال شرائح واسعة من الأميركيين. ويزيد في أهمية حضورها أنها جاءت متّصلة بنقاشات اندلعت منذ ضربات الإرهاب في 11/9، في شأن العلاقة بين الأمن والحريات العامة والخصوصيّة الفرديّة. ولعل رنّة الانتصار كانت واضحة في كلمات المحامي الأميركي- العربي هاني فاخوري، وهو مسؤول في مؤسسة «الجبهة الإلكترونيّة» Electronic Front، في سياق تعليقه على قرار صدر أخيراً من «المحكمة العليا» ساوى بين حصانتَي الخليوي والبيت. «إنه انتصار ضخم للخصوصية الرقميّة، إذ أقرّت المحكمة العليا بحساسيّة المعلومات الكثيرة المُجمّعة في الخليوي، وهو أداة شخصية للمعلومات باتت جزءاً من حياة الأفراد فلا يستطيع أحد الاستغناء عنها»، وفق كلمات المحامي عينه. ولم يتردّد فاخوري في الربط بين حماية المعلومات الشخصية على الخليوي من جهة، وبين الأشكال المتنوّعة من اقتحام المساحة الإلكترونيّة في الحياة اليومية للأفراد. «صار المجتمع رقميّاً بصورة تتصاعد باستمرار. يجب العمل على أن يكون لقرار المحكمة إملاءات على الأشكال الأخرى من أشكال المراقبة والتفتيش والرصد التي تمارسها السلطات الحكوميّة»، وفق كلمات فاخوري التي لا يصعب تلمّس الآثار العميقة للتورّط العميق ل «وكالة الأمن القومي» في التجسّس الإلكتروني الواسع على الناس والمؤسسات والحكومات. وتصادف أيضاً أن القرار الذي صدر قبل بضعة أسابيع، جاء قبل أن تكشف صحيفة «واشنطن بوست» أبعاداً جديدة في تجسّس تلك الوكالة، عبر وثائق جديدة سرّبها سنودن. وتبيّن الوثائق أن «وكالة الأمن القومي» كانت مخوّلة التجسّس على الدول كافة، باستثناء أربعة هي بريطانيا وكندا ونيوزيلندة وأستراليا. ربما بات نافلاً القول إن إسرائيل لم تكن استثناءً عن عين «الأخ الأكبر» الأميركي، ما يذكّر أيضاً بأن إحدى القضايا الأكثر حساسيّة بين أميركا وإسرائيل هي قضية الجاسوس جوناثان بولارد، المتّهم بنقل معلومات استراتيجية حسّاسة من بلده إلى إسرائيل. معلومات الأفراد تكشفهم في مواقع أميركية كثيرة، خصوصاً تلك المعنيّة بحماية الحياة الشخصية للأفراد من سطوة المؤسسات الأمنية، ورد أن القرار القضائي المشار إليه آنفاً يلاحظ مسألة أساسيّة في المجتمعات المعاصرة: ضخامة المعلومات التي يحملها الأفراد معهم في أجهزتهم الإلكترونية الشخصية. ومع زيادة تطوّر تلك الأجهزة وارتفاع مستويات ذاكراتها وذكائها، صارت المعلومات المتراكمة عليها تضمّ مناحي حياة الفرد كافة. يجدر الإقرار بوقائع أساسيّة. ففي الوقت الراهن، يحتوي الهاتف الذكي أو ال «تابلت»، على البريد الإلكتروني والصور بأنواعها وأسماء الأصدقاء والمذكرات الشخصية والرسائل النصيّة والملفات المتعلقة بالعمل والبيت، والملاحظات اليومية، وسجل اللقاءات والتنقّلات وغيرها. ما الذي يبقى من معلومات عن الفرد وحياته خارج ذلك الجهاز الذي يحمله معه بصورة شبه دائمة؟ هل يحق للسلطات الأمنية أن تطّلع على تلك التفاصيل كلها، وهي موثّقة من الشخص نفسه، من دون حماية القانون؟ من ناحية ثانية، تمتلك السلطات الأمنية قدرات تقنيّة تمكّنها من استخراج المعلومات من الأجهزة الرقمية الذكيّة بسهولة، إضافة الى إمكان تتبّع خيوطها وتشعّباتها كافة. في سياق القضيّة التي أثارها سنودن، بدا واضحاً أن المؤسّسات الأمنية للدولة الحديثة تملك أذرعاً أخطبوطية، تستطيع الوصول إلى المعلومات على الإنترنت وشبكات الخليوي، إضافة إلى قدرتها الهائلة على اقتحام الأجهزة الإلكترونية والرقمية كافة. في هذا المعنى، يكون القرار من «المحكمة العليا» وهي السلطة القضائية الأعلى أميركيّاً، بداية عصر جديد من الصراع بين الخصوصية الشخصية وحمايتها من جهة، والتغوّل المستمر لاقتحام المؤسسات الأمنيّة تلك المساحة في حياة الأفراد. بسرعة، يخطر في البال أن القرار يتضمّن مساواة بين مكانين أحدهما (هو البيت) الراسخ الخصوصية تاريخياً ويستند إلى وجوده المادي الفيزيائي الواضح، فيما الآخر (معلومات الخليوي) يتواجد دوماً في حيّز افتراضي رقمي. ولأن حصانة المنزل وخصوصيته لهما تقاليد مكينة تمتد إلى زمن ربما يسبق زمن القانون نفسه، يبدو قرار المحكمة كأنه يساوي بين شيئين غير متساويين أصلاً. يجدر الإقرار بوضوح بأن الإنترنت والأجهزة الإلكترونيّة أدخلت بعداً جديداً إلى العمران الإنساني. ولم يعد من المستطاع الحديث عن العيش المعاصر بمعطياته المتنوّعة، من دون ذلك البعد الافتراضي الرقمي. بذا، يكون قرار «المحكمة الأميركية العليا» معاصراً بمعنى تجديد القانون عبر إدخال روح العصر ومتغيّرات العمران والعيش الإنسانيين إليه، وهي أشياء في صلب وجوده أصلاً. من ناحية أخرى، يؤشّر القرار عينه إلى أن الصراع في الفضاء الإلكتروني من أجل حماية الخصوصية الشخصيّة (وهي جزء من حريّة الإنسان)، صار شيئاً أساسيّاً في عيش الفرد في الأزمنة الحديثة.