تنص وثيقة إنشاء إسرائيل، أو إعلان الدولة، في 15 أيار (مايو) 1948، على أن الدولة الجديدة يهودية وديموقراطية. وهي يهودية في ميزان سكانها وقوميتها أو إثنيتهم الغالبة، وهي ديموقراطية برلمانية في ميزان نهج الحكم. وتدور المناقشات والخلافات على الضفتين، وعلى ترتيبهما وثقلهما في حياة المجتمع الإسرائيلي وخياراته وعلاقاته. ففي العقود الأخيرة، شهدت دول كثيرة، منها إسرائيل، العودة إلى الإيمان الديني وإحياءً لشعائر الدين. وخلف الأمران، العودة والإحياء، آثاراً سياسية عميقة غيرت المجتمع المدني الإسرائيلي رأساً على عقب. وهو كان، في معظمه، وطوال 30 سنة، مجتمعاً علمانياً، يغلب عليه نازع اشتراكي. فأمسى غداة الهجرة اليهودية من البلدان العربية، مجتمعاً تسوده التقاليد الموروثة ويرعى إحياء الشعائر الثابتة. واضطلعت الأحزاب الدينية، في نظام انتخابي نسبي، بدور مفصلي في تحالفات الحكم. فعمدت هذه الأحزاب إلى مقايضة تأييدها، ومالت إلى حكومات قومية ويمينية في مقابل منافع وامتيازات تعود بها تحالفاتها على جمهور ناخبيها. وتعاظمُ دور المعتقد في السياسة يعود كذلك إلى واقعة تاريخية راجحة أدت إلى ظرف جديد هي حرب 1967 والنتائج التي تمخضت عنها. فالمشاعر التي غمرت المؤمنين والعلمانيين حين لمست أيديهم الجدار الغربي من الهيكل المسمى حائط المبكى، لا توصف. ولم ينسَ أحد الانتشاء بحرية التنقل من غير قيود بين أنحاء القدس المتصلة وفي أرجاء بلاد التوراة. وسرعان ما انقسم الرأي في مصير الأراضي الجديدة: فوصفها بعضهم بالمحتلة، وذهب بعض آخر إلى أنها محررة. وحسب شطر غالب من السكان، يساريين ويمينيين خصوصاً المتدينين، ثمرة الحرب «معجزة» وليست إلا وليدة إنعام غير بشري ولا دنيوي رد إلى الأحفاد أرض الأجداد. ورأى آخرون أن احتلال أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة ذريعة ممتازة لحل الصراع الإسرائيلي– الفلسطيني بواسطة التفاوض ومن غير عنف. وبينما كانت الدولة تتردد بين حلول متناقضة، أقرت الدول العربية المحاربة، في مؤتمر قمة جمعها في 1970 بالخرطوم، نهجَ اللاءات الثلاث: لا للتفاوض ولا للاعتراف ولا للسلام. وحمل اليمين القومي والديني الإسرائيلي توصية الخرطوم على محمل تثبيت سياسته، ورأى اليسار واليمين المعتدل في التوصية فرصة سلام ضائعة. ويرزح الإسرائيليون في 2012 تحت ثقل عواقب 1967 إلى يومنا، من حروب وعمليات وقمع ومظالم ومن أحلام ومحاولات حل وآمال خائبة. والحلول المفترضة لهذه المعضلة التي تعصى على الحل، ثلاثة: شطب إسرائيل أو إنشاء إسرائيل كبرى بين المتوسط ونهر الأردن، أو تقسيم الأرض بين دولتين الأولى إسرائيل وراء «الخط الأخضر» والثانية فلسطين صغيرة. يميل العرب والمسلمون إلى الحل الجذري. فشطب إسرائيل يخلي محلها لقيام فلسطين عربية وإسلامية بين البحر المتوسط ونهر الأردن. وهذا قد يحصل إما سريعاً، ثمرة انتصار عربي وهزيمة عسكرية إسرائيلية، وإما بطيئاً، في آخر مطاف ضربات أو صدمات متدرجة يخطط لها القادة العرب والفلسطينيون وتمزج رفض التفاوض ونزع المشروعية والتحريض، مع اللجوء إلى الأممالمتحدة والاستنجاد بالعالم الثالث وعمليات تغذي التهديد الأمني. والحل العسكري قاطع وحاسم، واستقراره يجعل العودة عنه عسيرة. والحل من طريق نزع المشروعية بطيء، ويقتضي صبراً ووقتاً. والرجوع إلى مراحل وسيطة مثل خريطة التقسيم في 1947 وليس هدنة 1949، يلزم إسرائيل بالتخلي عن أكثر من ربع الأراضي داخل «الخط الأخضر» إلى فلسطين لا تنفك عن المطالبة بخريطة «كبرى». وتتقاسم الحلين، الجذري والبطيء، جماعات «جهادية»، سنية وشيعية، وجماعات فلسطينية معتدلة من أنصار «فتح» ومنظمة التحرير الفلسطينية، ترى أن الصبر والوقت مثمران أكثر من القوة والغضب. والحل الجذري قد لا يكون مستحيلاً لكن حظه ضئيل. ويميل الإسرائيليون إلى حل جذري آخر هو إسرائيل كبرى بين المتوسط والأردن تضم كل الأراضي التي احتلوها في حرب الأيام الستة. وتتناول الحل صيغتان أيديولوجيتان: صيغة اليمين المتطرف وشطر كبير من اليمين القومي اليهودي الإسرائيلي، وصيغة شطر من اليمين المعتدل واليسار المتطرف الإسرائيلي وغير الصهيوني. وتلقى هذه الصيغة تأييد عدد من المثقفين الفلسطينيين الذين انتهوا إليها بعد تأمل طويل. وكل من هذه الجماعات تؤيد دولة موحدة، وتسوغ توحيدها بأسباب وعلل تتباين وقد تتناقض. والحفاظ على صبغة الدولة الموحدة اليهودية يرتب حتماً تمييزاً بين الجماعات التي تتألف منها، اليهودية والعربية خارج «الخط الأخضر» وداخله، يقوِّض ديموقراطيتها، ويحل محلها نظام تمييز عرقي لا ريب فيه. والدولة المفترضة والمولودة من المساواة في حق الاقتراع الفردي، من غير اعتبار هوية الجماعات وكياناتها، تفقد الهوية اليهودية، وتطوي البرنامج الذي أنشأ المؤسسون الدولة في سبيله. ويأمل أصحاب هذا الحل بنشوء دولة إسرائيلية – فلسطينية، ومواطَنة جديدة في ركابها، تندمج بيسر في شرق أوسط يسوده السلام. والإسرائيليون الذين يميلون إليه يحملهم أو يدعوهم شاغل تجنب حرب أهلية بين يهود الدولة ويهود المستوطنات خارج «الخط الأخضر». يبقى حل التقسيم. ومرجعه قرار الأممالمتحدة الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) 1947. ونصَّ على تقسيم إقليمي متساوٍ تقريباً، وعزل جزءاً ثالثاً هو القدس. ورفض الفلسطينيون والعرب القرار، وترتبت على رفضهم النتائج المعروفة. ويقضي التقسيم اليوم بانسحاب الإسرائيليين وراء «الخط الأخضر»، أو ما بقي منه، وبتبادل أراضٍ يؤدي إلى ضم معظم المستوطنات في الضفة الغربية إلى إسرائيل في مقابل تعويضها بأرض مساوية. ويرسي الفلسطينيون، مع نهاية الاحتلال، دولة مستقلة ومسالمة بجوار إسرائيل يهودية وديموقراطية معاً. ويؤيد هذا الحل، في إسرائيل، اليسار الصهيوني واليمين الليبرالي. ويحدو الجماعتين حق الشعوب المبدئي في تقرير مصيرها، ومصلحة الإسرائيليين في دولة يعترف العالم ودول الجوار بحدودها، وتحافظ على خصوصيتها ولا تنتهك حقوق الإنسان. وتعترض هذا الحل المثالي، ظاهراً، مشكلات ومعوقات لا يستهان بها. فاعتراف الفلسطينيين بهوية يهودية للدولة يعني النزول عن حقهم في أرض إسلامية مقدسة. والمسألة العصية الثانية هي المستوطنات: ما السبيل إلى تجنب حرب أهلية بين شطري إسرائيل، داخل «الخط الأخضر» وخارجه؟ والمفاوضون الفلسطينيون لا يتكتمون على رغبتهم في فلسطين خالية من يهود يعيشون في دولة فلسطينية ورعاية قوانينها. والمسألة الثالثة هي الأراضي التي تقايض بها إسرائيل ضم المستوطنات الكبيرة، إذا أجمع الطرفان على الحل. فهل تطاول المقايضة أراضي خالية من السكان، شأن أرض في جنوب الخليل، أم تتناول مدناً وقرى عربية على تخوم الشطرين، وتقوم اليوم داخل «الخط الأخضر»، كما ينوي يمينيون يهود متطرفون يرضون بالمقايضة؟ والقصد من وراء تبادل سكان من غير ترحيل قسري، ليس غامضاً، ويراد به إضعاف الأقلية العربية داخل إسرائيل. ويعارض معظم العرب الإسرائيليين فكرة مقايضة الهوية معارضة شديدة، ليس حباً بإسرائيل طبعاً بل يحدوهم حرصهم على مصالح مدنية وحقوق سياسية يقر لهم بها نظام ديموقراطي. والمسألة الأخيرة، هي القدس والمشاعر القوية التي تثيرها المدينة المقدسة لدى طرفي النزاع. ووضع القدس شائك وبالغ التعقيد، ومثله مسألة الدولة الفلسطينية، غداة التقسيم وتسلحها، وعلاقتها بالدول العربية، وعلاقات جماعاتها وأحزابها بهذه الدول. ولا تستميل الدولة الفلسطينية المستقلة على أرض أقل مساحة من أرض 1947 إلا شطراً من أهالي الضفة الغربية، وبعض هؤلاء يرى في الدولة العتيدة حلاً نهائياً. وإذا قبل آخرون، مثل «حماس» و «الجهاد»، هذا الحل قيدوا قبولهم باعتباره موقتاً ومرحلة على طريق استعادة أرض فلسطين كلها. ويرضى الإسرائيليون العرب بالتقسيم الجديد شرط ألا يطبَّق عليهم ولا تغير نتائجه أوضاعهم. والأرض التي يتركها التقسيم للفلسطينيين ضئيلة وفقيرة، وتحتاج تعاون السلطات الإسرائيلية ولا تستوعب إلا جزءاً من الفلسطينيين، وتشترط التخلي عن حق العودة إلى إسرائيل. وعليهم في هذه الحال، القبول بيهودية إسرائيل عملياً إذا لم يقبلوا بها قانونياً. وهؤلاء يتهمهم إخوانهم بالخيانة. ويثير التقسيم، وما بعده، قضايا ضخمة: الحدود والمياه والأمن والعلاقات بين الشطرين وبالجوار. وعلى رغم الأخطار التي تحف بالحل القائم على التقسيم، والتي تقدم إحصاؤها، يختار كاتب المقال التقسيم ليتفادى في المرتبة الأولى الحرب الأهلية الإسرائيلية وإطاحتها ديموقراطية الدولة ويهوديتها معاً. ففي حال كانت إسرائيل حاملة طائرات غربية راسية على شرق المتوسط أم كانت دولة مشرّعة على الجوار، لن يكون في مستطاعها الجمع بين هويتها الخاصة وانخراطها في العالم العريض إلا إذا حافظت على وجهيها: اليهودي الخاص والديموقراطي العام، والتقسيم وحده قمين بالحفاظ عليهما. وطاقم الحكم الحالي في إسرائيل، وهو يميني ويميني متطرف، لا ينوي الإقدام على مفاوضات جادة، وينشد المراوحة، فيقترح التفاوض من غير شرط مسبق علناً، ويشترط ضمناً شروطاً لا يسع الخصم قبولها. في الطرف الآخر سلطة فلسطينية تتكلم بلسانين، وتخطو خطواً ثقيلاً ومرتبكاً، ولا تملك سلطة إنهاء النزاع في أي من الأحوال المتاحة. فلا سبيل إلى الحل إلا إذا فُرِض من خارج على الطرفين المتلكئين والمقيدين. وإذا لم يفرض حل تحكيماً وفرضاً لن يرغب فيه طوعاً أي من الطرفين. وينبغي أن يراعي التحكيم تلبية جزء أو شطر من مصالح المتخاصمين ومطالبهما. وفي رأس هذه المصالح اتفاقات تضمن أمن الإسرائيليين وتطمئن الفلسطينيين إلى متانة المساندة السياسية والاقتصادية ودوامها. وعلى الولاياتالمتحدة وأوروبا وروسيا الاضطلاع بالتحكيم وإلزام القيادتين به. * أستاذ فلسفة في الجامعة العبرية بالقدس، عن «كومونتير» الفرنسية، شتاء 2012-2013، إعداد منال نحاس