يجتهد اليمين الإسرائيلي فيما تبقى له من وقت إلى إجهاض خيار الدولتين من خلال الفعل والممارسة على الأرض.حلّ الدولتين هو التسوية التي درج العرب والفلسطينيون في العقود الأخيرة على اقتراحها كمخرج من حالة الصراع مع إسرائيل. ومن هنا، فقد كان الاقتراح ضاغطا على النُخب الإسرائيلية إلى ما بعد أوسلو وحتى يومنا هذا. لأن معنى هذا الحلّ، في أقلّ تقدير، هو تفكيك المستوطنات الإسرائيلية في قطاع غزة والضفة الغربية. ولا يزال هذا الحلّ أبرز الخيارات المتداولة فلسطينيا رغم التحولات التي طرأت عليه ومنها اتساع بعض البؤر الاستيطانية على نحو تحولت فيه إلى مدن منغرسة كحقائق ناجزة في وجه أي ترسيم للحدود بين دولة فلسطينية قد تقوم وبين إسرائيل. باعتقادي إن هناك ضرورة ليُعاد النظر عربيا وفلسطينيا في هذا الخيار وليس للسبب الذي ذكرته فحسب أو لتحولات أخرى ديمغرافية وسواها على الأرض، بل لأنني أتبيّن مؤشرات تشي بحقيقة أن اليمين الإسرائيلي يعمل على تحويل هذا الخيار إلى عكس ما يُراد به فلسطينيا. فبينما يسعى الفلسطينيون بجدية إلى ترجمته بشكل ما على أرض الواقع والسياسة، تجتهد النُخب اليمينية في إسرائيل إلى تحويله مصيدة تفاوضية وحلقة مفرغة للفلسطينيين.يجتهد اليمين الإسرائيلي فيما تبقى له من وقت إلى إجهاض خيار الدولتين من خلال الفعل والممارسة على الأرض وإن كان أبقى الباب مفتوحا لهذا الخيار في المستوى الخطابي. بل، نشهد في الآونة الأخيرة إقبالا مضطردا من صقور اليمين ومعتدليه على دعوة القيادة الفلسطينية إلى التفاوض في أي وقت وأي مكان. هذا، وفي الخلفية خطاب بنيامين نتنياهو قبل أربع سنوات الذي التزم فيه صراحةً بمبدأ الدولتين للشعبين! إلا أن التطورات في الواقع تجري في اتجاه آخر. ونشير بشكل خاص إلى تنشيط البناء الاستيطاني في كل المواقع التي يُمكن أن تكون جغرافيا موصلة بين شمال الضفة الغربية وبين جنوبها ذاك الحيّز الذي من المفترض أن تقوم عليه الدولة الفلسطينية في إطار حل الدولتين. والجغرافيا هي من المكونات الأساس لاستقلال شعب وتشييد دولته وسيادته. ويأتي العبث الإسرائيلي بالجغرافيا لسحب البساط المادي من تحت أرجل الدولة الفلسطينية المأمولة. في أسوأ حال، من زاوية نظري اليمين الإسرائيلي، ستكون خطواتهم على الأرض إضعافا استباقيا لأي كيان فلسطيني قد ينشأ مستقبلا شرق الخط الأخضر حدود حزيران 67 بين الأردن وإسرائيل! وفي أفضل الحالات ستُفضي الخطوات الإسرائيلية على الأرض إلى تحويل هذا الخيار الذي فشل الجميع في تحقيقه منذ صدور قرار التقسيم العام 1947، إلى متاهة من صنع فلسطيني لا مخرج منها! من هنا ليس صدفة أن يتسع الخطاب السياسي الإسرائيلي القائل بحل الدولتين ووجوب التفاوض. لكن السؤال يتمحور حول جدوى الخيار المذكور فلسطينيا وجدوى التفاوض في ظل وقائع كالتي على الأرض. وهي ليست حصرا في الجغرافيا بل تتصل بالديمغرافيا، أيضا. فتقسيم الجغرافيا يقصد به، أيضا، إحكام السيطرة أو تسهيل عملية إدارة ما تبقى من صراع. فتقسيم المكان الفلسطيني إلى حيزات فلسطينية صغيرة سييسّر على إسرائيل تمرير سياسات العزل المكاني للفلسطينيين. وقد خطا الفلسطينيون بأنفسهم نحو هذه الوضعية المريحة لليمين الإسرائيلي بانقسام الوطن إلى دويلة غزة ودويلة احتمالية في الضفة وجيب القدس! هذه هي الوقائع على الأرض. ومن شأن خيار الدولتين أن يتضح كأسوأ خيار للفلسطينيين وقضيتهم بتحوّله إلى أنشوطة كلما تحرّك العنق فيها زادت ضيقا وشدّا عليه! وقد رأينا أنه كلما تكثّف الحديث عن هذا الخيار كلما ضاقت فُرصه، أو كلما قلت فرصه اتسعت دائرة الحديث عنه واتسعت القاعدة الإسرائيلية التي تتبناه. وهذا ما يفرض قراءة أخرى للمسألة الفلسطينية. قد يكون من الخطأ التاريخي التمسّك بخيار الدولتين لأنه سيعني في محصّلة الأمور كيانا فلسطينيا هشّا أو كانتونات وجيوبا تحت رحمة الجار الإسرائيلي ومزاجه الأمني أو الاقتصادي! من هنا تكمن أهمية تفكيك خيار حلّ الدولتين في ضوء ما نشأ وتطور وفي ضوء التعاطي الإسرائيلي معه كمصيدة للفلسطينيين. فلا تعود المسألة الفلسطينية ردّ فعل على قيام إسرائيل ولا رهينة خيارها المتقادم. قد تكون النُخب الفلسطينية الآن في حالة ضعف أو تعب. أو هي تنتظر فرصتها أو استقرار مفاعيل الحَراك العربي. مهما يكن من أمرها، فإن المسألة الفلسطينية ليست ملكها وحدها ومن هنا تكون قابلية النقاش حولها أن تخرج من تخوم مألوفها ومصالحها. وهو ما بدأ فعلا لدى أوساط فلسطينية مثقفة وفاعلة ميدانيا مجموعات تبحث عن خيارات أخرى غير حلّ الدولتين. عن إمكانية لاستعادة زمام المبادرة فلسطينيا من خلال الانفتاح على خيارات جديدة مثل خيار الدولة الواحدة مثلا. والأهم أن في صلب هذه النقاشات ذاك الإدراك المتزايد لضرورة وضع المسألة الفلسطينية من جديد في مقابل المسألة اليهودية والاشتباك بها في هذا المنعطف من التاريخ اشتباكا جريئا لا يُنكرها ولا يُنكر وجود اليهود في فلسطين التاريخية. وهذا يعني أن الخروج من متاهة حل الدولتين هو مقدّمة لفتح الحدود أو المتخيّل منها على كل التاريخ وكل الصراع المشترك للإسرائيليين والفلسطينيين فلا تظل المسألة مسألة احتلال أو استيطان أو أسرى في سجون إسرائيل أو ضفة غربية أو غزة أو شتات أو ساحل فلسطيني بل تصير تعود قضية تقرير مصير شعب.إن انفتاحا كهذا خارج المسار المألوف للصراع وخارج مبانيه القابضة على روح الفلسطينيين ومستقبلهم قد يُكسبهم قوة ويفتح أمامهم خيارات أخرى قابلة للحياة وللتطبيق أكثر بكثير من خيار حل الدولتين. فيستبقون الوقوع في مصيدة أو الدخول في متاهةٍ تغرّبهم وتشتتهم في أصقاع الدنيا ستة عقود أخرى.