بعد حصوله على شهادة الماجستير في العمارة، بدأ هاني على متن الطائرة في رحلة العودة من واشنطن يكتب: حوّلت الرأسمالية فنون العمارة إلى فسوق مادي، وترف وجداني، وإبداع لذائذي؛ يتطاولون في البنيان والناس عراة على أرصفة الشوارع، تفكك الفكر المعماري المقاوم، واغتسل بمياه السوق الإقطاعية الملوثة، وانهار مع انهيار إمبراطورية الشر! اتسعت مساحة مرسم «كل شيء بعشرة»، ولم يعد مخجلاً أمام الزحف الصيني التجاري الهائل ضياع أعمال عمالقة العمارة أمثال، سنان أغا، إريك مندلسون، كيفن روشي، لو كوربوزييه، فلاديمير تاتالين، لويس براغا، حسن فتحي، راسم بدران، نيكولاي لادوفيسكي، جعفر طوقان، محمد مكية، أنطوان نحاس، نعوم شبيب، وغيرهم كثير. استرسل المهندس هاني في تدوين رسالته: العيب كل العيب ألا نستطيع نحن المعماريين أن نجد حلولاً لأهلنا من سكان الأرض، لأن الإنسان لا يشعر بالمواطنة والثقة في طمأنينة الحياة وانتسابه لتراب الوطن ما لم يكن له قبر في الحياة يأويه؛ ربما تكون كلمة قبر في الحياة قاسية، لكننا نواجه في المسكن الدنيوي الموتة الصغرى، إذن هو قبر مزركش بستائر ألوانها إشتراكية. يا لنا من معماريين قاسيةٌ قلوبنا؛ رحل المهندس العملاق حسن فتحي وهو يبحث عن المعماري حافي القدمين، كان يردد أن 800 مليون من البشر يموتون بسبب الإسكان الشائه غير الصحي، وبعد مرور ربع قرن على وفاته تضاعف العدد، إنه يتزايد يوماً بعد يوم، ونحن نعقد صفقات مع عقاريين قلوبهم تنبض بأرصدة الملايين، أين يذهب الضعفاء والمساكين والعاملون عليها والغارمين وفي الرقاب؟ بل أين يذهب الموظفون في الأرض؟ عَزمتُ أمري؛ مُستعد لأكون ناشطاً من خلال مؤسسة مجتمع مدني، سأطرح فكرة تأسيس جمعية «معماريين بلا حدود حفاة أقدام»، الخيّرون يسهمون بالأرض والمال، وعلينا الفكر والعمل الجاد واستلهام الطبيعة، لتحطيم سباق الأغنياء نحو القصور والمباني الفخمة، بجدران رخامية وأسوار إقطاعية، عزلت قلوب المعوزين وجعلتهم ينظرون من نوافذ الإحباط والشعور باليأس! غفوة نوم عميقة، عاد بعدها هاني يُكمل مدونته الفضائية؛ أرجو أن يكون زماننا العربي بعد ثورات ربيعه تحوّل إلى كفلان الفرص المتساوية، والنجاح على قدر المشقة والسعي والإرادة، وآمل أن أجد مساحات التفاؤل تملأ فضاءاته الشاسعة؛ أسألك يا رب ألا أضطر يوماً إلى التعليل وتفسير الفشل، بحظ عاندني، ويكون نجاحي مستمداً من بريق وطني. بدأ هاني من نافذة الطائرة يشمُ رائحة صور الوطن، لملم الأوراق وحدّق النظرات في خريطة المدينة الجوية، يا للحظ السعيد، أراضٍ بيضاء تنتشر في وسط المدينة وعلى أطرافها، إذن ما المشكلة التي تواجه وطني وجعلت من عدم توفر المساكن أزمة في طريقها إلى الاختناق؟ ولماذا خريطة المدينة تزحف شرقاً وشمالاً والبقع البيضاء الكبيرة تشوه الصورة، إنها مثال على الارتباك وسوء التخطيط، أو أن هناك أمراً جللاً أصاب هذه المساحات من الأراضي بالموت، لا يمكن أن تكون محجوزة ضمن عمليات البحث عن النفط والغاز، أو ضمن استثمارات صندوق الأجيال المقبلة، لعلي أجد عند المحسنين جواباً؟ تربّع المهندس هاني على كرسي حفاوة العائلة بعودته سالماً غانماً بالعلم والمعرفة، وبدأ يُحدث والديه وإخوته عن برنامج «المعماريين حفاة الأقدام»، لم يستطع أحد أن يُنكر ما قد عزم عليه، سعادة مشوبة بالحذر تلك التي قرأها في عيني والده، ودعوات بأن يُهيئ الله له من أمره رشداً. بدأ من الصباح الباكر يطوف على ثلة من أصدقاء المهنة، ودعاهم لحضور ورشة عمل سيقدم فيها البرنامج والمشروع، إستجابوا لدعوته، وتوالت الضحكات على العنوان الذي دونه في الشريحة الأولى من العرض؛ «جمعية المعماريين حفاة الأقدام»، عرض عليهم الرؤية والرسالة والأهداف، وكيف يمكن الإسهام بجزء من الوقت والجهد لخدمة الوطن، في حل أزمة الإسكان، مع توفر عائد أخلاقي ومهني على الاستثمار لضمان استدامة البرنامج والمشروع. أفكار أولية عرضها لكيفية استثمار المعرفة باقتصاديات وتكنولوجيا البناء في إنشاء المساكن، وكان باهراً وهو يعرض حلم تملك فيلا مساحتها 300 متر، بقيمة لا تتجاوز 200 ألف دولار...! أطلق مهندس من الحضور صيحة الإحباط الأولى، بالأرض يا مهندس هاني؟ أجابه مبتسماً، ذكرت أننا نعمل تحت مظلة جمعية تكافلية، والأرض محسوبة الكلفة بسعر رمزي أو منحة من الحكومة، شاهدت من نافذة الطائرة في رحلة العودة أراضي شاسعة بيضاء في وسط المدينة، فما بالك بأطرافها، وما دمنا جادين ومخلصين للبرنامج والمشروع للإسهام في حل أزمة الإسكان، فما الذي سيمنع الحكومة ورجال المال والأعمال من مساندتنا ودعمنا بالأراضي؟ قبل أن يُنسف المشروع من أساسه بجدلية الأمر الواقع، قام كبير المهندسين الحاضرين، وقطع الطريق على كل هذا وقال: دعونا نوافق من حيث المبدأ على الفكرة، ونُشكل فريقاً من خمسة أعضاء لتولي مهمة تأسيس الجمعية، ونناقش بعدها المرحلة التالية، وافقوا بالغالبية، ثم تناولوا طعام العشاء، وبعدها كل ذهب إلى غايته، وبدأ هاني يُرتب لمواعيد اجتماعات أعضاء الفريق وزياراتهم للجهات المختصة. وفي المشهد الأخير؛ رُفض الترخيص للجمعية لاستيطان ثقافة الرهبة والشك من مؤسسات المجتمع المدني؛ حَوّل هاني المشروع إلى رخصة مكتب هندسي، بحث عن منحة للمشروع فضاقت عليه الأرض بما رحبت، فكّر في شراء الأرض، فوجد الأسعار متعادلة وتفوق أسعار الأراضي التي تقع على نهر التايمز؟ احترقت أوراق ومخططات البرنامج الاجتماعي والمشروع السكني على متاريس «شبوكستان»؛ ودَوّن المهندس هاني على ورقة بيضاء رسالة علّقها على أسوار شبك يُطوّقُ أرضاً شاسعة في وسط المدينة «إلى المدللين الذين لم يذوقوا مرارة الحرمان في الحياة من دون مسكن؛ المكان مسكون في قلوب الناظرين إليه، قلوبنا تذوب في وجدان متر الثرى، المحبة طائر وردي تمتلك كوناً صنعه الله بصكوك عادلة لبني البشر». * كاتب سعودي. [email protected] @alyemnia