رحلة ألف عام: متحف عالم التمور يعيد إحياء تاريخ النخيل في التراث العربي    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    أمانة الشرقية تقيم ملتقى تعزيز الامتثال والشراكة بين القطاع الحكومي والخاص    بوتين: روسيا ستُدخل الصاروخ الباليستي الجديد «أوريشنيك» في القتال    روبن نيفيز يُحدد موعد عودته    الهلال يفقد خدمات مالكوم امام الخليج    الأهلي ينتصر على الفيحاء بهدف رياض محرز    دوري روشن: التعادل الايجابي يحسم مواجهة الشباب والاخدود    القبض على شخصين بتبوك لترويجهما مادتي الحشيش والإمفيتامين المخدرتين    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    "الجمارك" في منفذ الحديثة تحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة "كبتاجون    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    حلول ذكية لأزمة المواقف    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المنظور الحضاري للتراث المعماري الإسلامي وتحديات العمران المعاصر
نشر في الحياة يوم 04 - 04 - 2009

يعتبر التراث المعماري الإسلامي في واقعه التاريخي بمثابة الإنجاز الحضاري الذي يبلور لنا الى حدّ كبير، ملامح الشخصية الحضارية الإسلامية في عصورها الزاهرة، إذ حمل هذا التراث في مفرداته البصمات الحية لهذه الشخصية المتميزة في كل مناحي الحياة. ومن ثم فإن ضياع الملامح البارزة لهذا التراث المعماري انما يفجّر في النفس مكامن الحزن الدفين تجاه فقدان هذه الملامح الحضارية التي كانت يوماً ما بارزة بروز الشمس في رابعة النهار، كتراث معماري فذّ جسّد معالم الرؤية الإسلامية في مجال خصب، يُعدّ ولا ريب من أخصب مجالات الحياة، ألا وهو مجال العمارة وتراثها، وهذا من منطلق أن العمارة هي معيار الحضارة على حدّ تعبير الدكتور عبدالمجيد واقي.
وفي هذا السياق، يمكن القول أن تراثنا المعماري هو بمثابة البوتقة التي انصهرت فيها المدنية الإسلامية، والعقلية الإسلامية بكل ملامحها العامة والخاصة. ولكي تعود لهذا التراث الفريد ملامحه البارزة وفعاليته الحيوية، لا بد من صرخة مدوية، وذلك من أجل صحوة ضمير الأمة الإسلامية التي غطت في النوم ومن ثم راحت في سبات حضاري عميق. وبالتالي أضاعت الى حد ما قسمات وجودها الحضاري، ولا سيما في المجالات المادية، وذلك بحجة اللحاق بالعصر، ومن قال ان اللحاق بالعصر يتم على حساب ملامح التراث الحضاري للأمة ومعالمه الواضحة، التي تجسد وبكل الموضوعية الأصالة للذات المسلمة.
ولذا، فإننا في حاجة ماسة الى جهود وثابة تنادي بضرورة العودة الى المنابع الأصيلة التي استُلهمت منها ملامح تراثنا المعماري الإسلامي، إبان عصور تألق حضارتنا. وفي الواقع هي منابع ثرّة فيّاضة يقف على قمتها الدين الإسلامي الخالد، بما قدمه من رؤية صادقة لتنظيم الهيكل العام والخاص للحياة الإسلامية. ولذا ينبغي أن يكون المنطلق الحافز للتجديد الحضاري في هذا المنحى هو موقع التراث المعماري الإسلامي بين قطبي التحدي والاستجابة وذلك لأن امتنا الإسلامية تواجه تحديات حضارية شرسة في عصرها الراهن. فهل يا تُرى ستعود الأمة الإسلامية الى أصالتها الحضارية. أم أنها ستتغرب وتضيع منها اللمسات المميزة لهويتها وسط هذا الركام الكثيف الذي ملأ عليها أقطار السموات والأرض؟ ان الاهتمام بإحياء التراث المعماري باعتباره عنوان شخصية الأمة الحضارية في واقعها التاريخي ليس قاصراً على الشرق وحده، إنما هو أيضاً كذلك في الغرب، فها هو الأمير تشارلز (ولي عهد بريطانيا)، يولي اهتماماً واضحاً لتلكم القضية الحيوية والمصيرية في آن واحد، وذلك من خلال موقفه الواعي وأسفه وحزنه الشديد على ضياع ملامح المباني التراثية في بريطانيا. ولعل أهم ملمح بارز يبلور مدى فعالية هذا الموقف الشجاع انما هو تهديد الأمير لهؤلاء الذين تنكروا لتراثهم المعماري حضارياً، وحاولوا تشويه القيم الجمالية لهذا التراث المعماري بالاختراعات المعمارية الحديثة. ولقد تناول أبعاد هذا الموقف الشجاع بالدراسة والتحليل الدكتور المهندس عبدالباقي ابراهيم – الذي رحل عن دنيانا الزائلة عام 2000 – في احدى شهرياته المتتابعة التي كان ينشرها على صفحات مجلة «عالم البناء» التي رأس تحريرها وكانت تصدر عن مركز الدراسات التخطيطية والمعمارية في القاهرة.
منظمة المدن العربية
وإذا ما انتقلنا الى عالمنا العربي والإسلامي المعاصر، وموقفه من التراث المعماري الإسلامي، فسنجد ان الموقف تجاه هذا التراث يتسم أحياناً بالسلبية وعدم الاهتمام إلا في بعض الأوساط الثقافية التي تنحو منحى الأكاديمية في سبيل الحفاظ على التراث المعماري الإسلامي، وذلك عبر محاولة استلهام عناصره وتكويناته من أجل صوغ الشخصية المعمارية الحضارية لأمتنا على أسس واضحة. ويأتي في مقدمة هذه المؤسسات التي أولت هذا التراث الحضاري اهتماماً واضحاً، منظمة المدن العربية التي انبثقت من جامعة الدول العربية في 15 آذار (مارس) 1967 بعد أن أبدت بلدية الكويت استعدادها لتحديد أسس التعاون بين المدن العربية، ولقد لقيت الدعوة استجابة من رؤساء البلديات لحضور ذلك المؤتمر الذي شارك فيه ممثلون عن 27 مدينة عربية. وعلى هذا الأساس، جاءت منظمة المدن العربية لتكون رافداً مهماً من روافد الحفاظ على المدينة العربية وتطورها، عبر نشاطها الفعّال الذي يزداد كلما ازداد عدد المدن العربية التاريخية والمهمة منها انضماماً للمنظمة والمساهمة في بنائها وزيادة حركتها. ولكي تحقق المنظمة طموحاتها الحضارية، التي أنشئت من أجلها فإنها تهدف الى تحقيق الأهداف التالية:
الهدف الأول: رفع مستوى الخدمات والمرافق في المدن العربية وتطويرها بما يساعد على نجاح التخطيط العمراني للمدن العربية.
الهدف الثاني: الحفاظ على هوية المدينة العربية وتراثها الحضاري.
الهدف الثالث: العمل على أن تكون المخططات العمرانية الشاملة لتوجيه المدن العربية منطلقة من واقعها الثقافي والاجتماعي والبيئي والاقتصادي.
الهدف الرابع: تحقيق التعاون بين المدن الأعضاء لحلّ المشكلات المتجددة التي تواجهها.
الهدف الخامس: رفع المهارات والقدرات ومستوى العاملين في المدن الأعضاء.
الهدف السادس: مساعدة المدن الأعضاء على تنفيذ مشاريعها من طريق مدها بالقروض المالية.
وانطلاقاً من دور المنظمة في مجال إحياء التراث المعماري كحاجة قومية ملحة لاستعادة حيوية التراث المعماري الإسلامي الأصيل، طرحت مشروعها الكبير (جائزة منظمة المدن العربية) على مستوى الوطن العربي الكبير مستهدفة إعادة استلهام أسلوب هندستنا الإسلامية الأصيلة الى واجهة مدننا العربية، فمنذ اكثر من عقدين من الزمان، أي في العام 1404ه= 1984م، أعلنت المنظمة فتح باب الترشيح امام المدن والبلديات والمعماريين العرب للاشتراك في هذه المسابقة. وبذلك، تمكّنت المنظمة من تحقيق اهدافها في الحفاظ على التراث المعماري الإسلامي، وتشجيع التنافس بين المدن العربية في مجال ترميم وصيانة وإعادة استخدام المعالم التراثية فيها، ومن ثم خلق روح الإبداع والتطوير بين المعماريين العرب، وتشجيعهم على استلهام عناصر التراث المعماري الإسلامي في اعمالهم العمرانية وإيجاد اجيال عربية مؤمنة بمبادئ الفن والفكر المعماري الإسلامي. وذلك عبر التشجيع على تطبيقه وإبرازه وتطويره والالتزام باعتماد الطابع المعماري الإسلامي للمدن العربية الجديدة، لا سيما انها تواجه هجمة معمارية شرسة، تحت شعار متطلبات الحضارة الحديثة، وكذلك تشجيع المعماريين العرب على تطويع التكنولوجيا الحديثة لاستخدامات العمارة الإسلامية.
والجوائز المعمارية لمنظمة المدن العربية هي الآتية:
الجائزة الأولى: هي جائزة المشروع المعماري التي تخصص لأحسن مشروع نفذ في مدينة من المدن العربية الأعضاء في المنظمة، ويمثل مرفقاً عاماً، وذلك إذا توافرت فيه الشروط الآتية:
- الشرط الأول: ان يبرز في المشروع جهد المهندس في استلهام التراث المعماري الإسلامي، وإعادة توظيف العناصر المعمارية التاريخية وتطويعها لإيجاد مطابقة مع الظروف الاجتماعية والاقتصادية للبيئة، ويظهر فيه إحساس ثقافي واع بالتركيب للمخطط في جملته وتفاصيله.
- الشرط الثاني: ان يعمل تناسقه وتطابق العناصر الجمالية والوظيفية فيه على دفع حركة الإحياء وتقديم شاهد ناجح على مدى جدوى العمارة الإسلامية وقيمتها في التطور والتنمية.
الجائزة الثانية: جائزة التراث المعماري التي تخصص لمدينة عربية تقوم فيها مراجع مختصة بالإحياء والحفاظ على جزء مهم من المدينة التاريخية، وذلك بمواصلة اعمال الترميم وإعادة توظيف المعالم والأبنية في الحياة اليومية ضمن خطة علمية مدروسة.
الجائزة الثالثة: جائزة المهندس المعماري التي تخصص لمهندس عربي تقديراً لكل الأعمال التي قام بها، والتي تؤكد روابطه وإيمانه بالعمارة الإسلامية ودعوته لها في كل الأعمال التي خطط لها ونفذها بصورة متواصلة. والآن وصل عدد الجوائز الى خمس، فهناك جائزة خاصة بالبيئة وأخرى للتشجير داخل المدن العربية.
إن ما سبق من سطور كان بمثابة إطلالة فكرية على إسهامات منظمة المدن العربية التي تعمل جاهدة على استمرارية الألق الحضاري لتراثنا المعماري في واقعنا المعاصر، وذلك من خلال استلهام الإبداع المتواصل في هذا التراث المعماري الفريد، ثم أخيراً الحفاظ والصيانة للقيم التخطيطية والجمالية لهذا التراث حتى يبقى شاهداً حياً على إبداعنا الحضاري، الذي كان ونأمل له بأن يعود كما كان، رمزاً لعبقرية الإنسان المسلم في مجال العمارة.
مؤسسات التراث المعماري
وهناك الى جانب منظمة المدن العربية، مؤسسات أخرى تنحو تقريباً المنحى ذاته في اهتمامها بالتراث المعماري الإسلامي في واقعه التاريخي. وهذه الأهمية لا بأس بها من اجل استمرارية هذا التراث في حياتنا المعاصرة. فعلى سبيل المثال، هناك جائزة أغاخان للعمارة الإسلامية، وجائزة الملك فهد بن عبدالعزيز للعمارة الإسلامية. فضلاً عن منظمة العواصم والمدن الإسلامي وما تقدمه من خدمات جلّى للتراث المعماري الإسلامي، وذلك حتى يزدهر ويحافظ على أصالته الحضارية. وإيماناً من منظمة العواصم والمدن الإسلامية بعبقرية التراث المعماري الإسلامي، فإنها تهدف الى تشجيع الخبراء والمختصين على التأليف أو الترجمة أو الإعداد او التحقيق في مجالات التراث المعماري الإسلامي، رغبة منها في إثراء المكتبة الإسلامية بالكتب في هذه المجالات الحيوية، منبثقة من العقيدة والشريعة الإسلامية ومتأثرة بالتراث الإسلامي والبيئة بالأسلوب العلمي العصري. ولذا، فإن المنظمة تعلن عن تخصيصها جوائز تُمنح كل سنتين باسم «جوائز منظمة العواصم والمدن الإسلامية للتأليف». وهناك جائزة خاصة للتراث المعماري الإسلامي هي «جائزة التأليف في مجالات العمارة»، وتشمل التصميم المعماري والتصميم الداخلي وتنسيق المواقع بما في ذلك الحدائق والرسوم التنفيذية والتفاصيل الداخلية والخارجية والإسكان وتاريخ العمارة والحفاظ على التراث العمراني والحرف والفنون المتعلقة بالبناء واقتصادات وتشريعات البناء وصيانة وترميم المباني الأثرية».
ويُلاحظ ان هنالك تبايناً بين جوائز منظمة المدن العربية وجوائز منظمة العواصم والمدن الإسلامية، فالأولى تحاول الاهتمام بالجانب التطبيقي بكل فعالياته من أجل إبراز الصورة الحقيقية لتراثنا المعماري حتى يكون ماثلاً امام اعيننا عندما نريد تحقيق الاستقلال الحضاري الناجز لأمتنا. أما الثانية فهي تهتم بالجانب النظري من خلال التنظير والتأليف والتحليل العلمي التوثيقي لمعطيات هذا التراث، وكلا الاتجاهين له أهميته من اجل الحفاظ على تراثنا المعماري الإسلامي. وعلاوة على ذلك، فإن هذه المؤسسات تعمل جاهدة على بعث التراث المعماري الإسلامي بكل مقوماته وقيمه، سواء كانت تخطيطية بحتة أم جمالية. وهنا ربما يحاول البعض التقليل من شأنها بقوله انها لا تحتوي على كل التراث المعماري الإسلامي، ولا كل البقاع الإسلامية. ومع هذا، فإنها في نهاية المطاف تبقى بمثابة محاولات جادة على طريق الارتقاء بالتراث المعماري حتى يتسنى له العودة الى منابعه الصافية التي شع منها يوماً ما.
اما على المستوى الفردي فلقد نال التراث المعماري الإسلامي اهتمام عدد لا بأس به من المعماريين والمخططين والمبدعين العرب والمسلمين، فلا أحد يستطيع ان ينكر جهود المهندس البارع حسن فتحي (رحمه الله)، الذي كان يدرّس العمارة الإسلامية وتراثها – باعتبارها واجهة هذه الأمة حضارياً – في جامعة القاهرة (كلية الآداب، شعبة الآثار الإسلامية ثم في معهد الآثار، ثم في ما بعد كلية الآثار – قسم الآثار الإسلامية). وكذلك درّس العمارة الإسلامية في جامعات السعودية، يضاف الى ذلك، تراثه الفكري التأليفي في هذا المجال الحيوي علاوة على إنجازاته التطبيقية المعمارية، التي استلهم في مكوناتها التخطيطية والجمالية مقومات التراث المعماري الذي اسهم في تكوين نسيجها العضوي تخطيطياً وجمالياً، ولقد أسعدنا القدر بالتتلمذ على يديه.
ايضاً هناك جهود الأستاذ الدكتور المهندس عبدالباقي ابراهيم – الذي سبقت الإشارة إليه – ومجهوداته الحيوية في هذا المجال من خلال رئاسته لجمعية إحياء التراث التخطيطي والمعماري، وإنجازاته في هذا المنحى تتجسد في إصداره كتباً عدة تتناول التراث المعماري الإسلامي بالتحليل، ومنها على سبيل المثال لا الحصر كتاب «تأصيل القيم الحضارية في بناء المدينة الإسلامية المعاصرة» وكتاب «المنظور الإسلامي للنظرية المعمارية» وكتاب «التراث الحضاري في المدينة العربية»... وللدكتور عبدالباقي ابراهيم بصماته المعمارية التطبيقية على أرض الواقع وهي في لحمتها وسداها تستلهم العناصر البارزة في التراث المعماري الإسلامي وتحاول توظيفها توظيفاً جيداً.
ولهذه الجمعية الرائدة التي كان يرأسها الدكتور عبدالباقي ابراهيم مجهودات أخرى تتمثل في إصدار مؤلفات عدة في هذا الصدد، لأساتذة ومتخصصين عرب ومسلمين في هذا المجال الحيوي، مثل: كتاب «الإسكان في المدينة الإسلامية» وهو عبارة عن ندوة عقدت في تموز (يوليو) 1985 تحت إشراف منظمة «العواصم والمدن الإسلامية» وهناك أيضاً كتاب «الارتقاء بالبيئة العمرانية للمدن العربية» الذي اصدرته أمانة مدينة جدة تحت اشراف مركز «الدراسات التخطيطية والمعمارية». وهناك ايضاً مجهودات الأستاذ الدكتور المهندس صالح لمعي مصطفى، ولعل أبرز إسهاماته في هذا المجال تتجسد في رئاسته مركز احياء تراث العمارة الإسلامية في القاهرة، وكذا تأليفه للكتب الحيوية في هذا الحقل المعرفي مثل كتاب «المدينة المنورة تراثها المعماري وتخطيطها العمراني». وأيضاً هناك كتاب «التراث المعماري الإسلامي في مصر»، إضافة الى كتاب «القباب في العمارة الإسلامية»، وكتاب «العمارة والوثائق»، وله أيضاً بصماته المتميزة في مجال الترميم وصيانة التراث المعماري الإسلامي وإعادة توظيفه من جديد.
ان هذه النماذج السابقة، ومعها مجهودات تضيق المساحة المتاحة لنا لهذه المقالة عن سردها، الى حد كبير أن هناك مجهودات لا بأس بها تبذل على مستوى الساحة الإسلامية، سواء على المستوى الخاص أم العام، من أجل الارتقاء والنهوض بالبيئة المعمارية، خوفاً من الثورة العارمة المتمثلة في طغيان المفاهيم والتصورات المعمارية الحديثة على بنية تراثنا المعماري. ولعل الذي حتّم علينا ضرورة اعتماد المنظور الحضاري لتراثنا المعماري – ونحن على مشارف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين – انما هو خصائص هذا التراث المعماري، الذي جسد بحق مدى عبقرية الذهنية الإسلامية الذي أفرزته كمعطى حضاري، عبّر ولا ريب خير تعبير عن تفردنا الحضاري. وسوف نلاحظ أن أول خاصية لهذا التراث انما هي أنه يترجم ترجمة صادقة موقف الإسلام تجاه العلاقة العضوية والالتحام الحي بين الإنسان والأرض، وهذا راجع الى انهما من مخلوقات الله، وليس هناك صراع على الإطلاق بينهما كما رأينا ذلك في فلسفات وحضارات سابقة على الإسلام كالحضارة الإغريقية.
ان ابرز خصائص التراث المعماري الإسلامي – فضلاً عما سبق – هو أنه يجسد روح العقيدة الإسلامية ونبضها، والتصور الإسلامي تجاه العمارة، باعتبار انها هي الوسط الذي من خلاله يستطيع الإنسان المسلم أن يترجم سلوكاته الى واقع معاش يرضى عنه الله والناس. ولكي تكتمل لنا ملامح هذه المقالة، فإنه لا بد لنا من التطرق الى بيان أنماط هذا التراث، والتي توزعت بين ثلاثة أنواع، هي على النحو التالي:
- النوع الأول هو التراث المعماري الديني: مثل المساجد التي كانت بمثابة المحاور الاولى التي تشكلت حولها العمارة الاسلامية، ويأتي في مقدمها المسجد الحرام ومسجد الرسول (عليه الصلاة والسلام) في المدينة المنورة، الذي كان بمثابة الوعاء الخالص الذي شعّت منه القيم الجمالية والقيم التخطيطية لعمارة المساجد الإسلامية – في عالم الإسلام – التي تجاوزت نسبة ال 99 في المئة من التراث المعماري الإسلامي، كما يرى ذلك أستاذنا الدكتور – حسن الباشا، وكذا المسجد الأقصى المبارك في القدس الشريف، الذي يعتبر ثالث الحرمين وأولى القبلتين، ومن مشتملات التراث المعماري الإسلامي الديني، المدارس الإسلامية التي كانت بمثابة المعاهد العلمية لحضارتنا الإسلامية، وهناك الكتاتيب التي تعلم فيها أطفال ويتامى المسلمين القرآن الكريم ومبادئ القراءة والحساب.
- النوع الثاني: هو التراث المعماري المدني الذي يشتمل على تخطيط المدن وشوارعها وأسواقها ومنازلها والبيمارستانات (المستشفيات) والاسبلة والحمامات، وهي إذا صح التعبير يطلق عليها عمارات الخدمة الاجتماعية.
- النوع الثالث: هو التراث المعماري الحربي مثل الأسوار والحصون والقلاع التي بنيت لكي تدافع من خلالها الامة الاسلامية عن مقدراتها الحضارية، ووجودها التاريخي، وهي شاهدة على مدى قدرة العبقرية المعمارية الاسلامية.
وحتى تكتمل لنا أبعاد الموضوع، وهو كون تراثنا المعماري الاسلامي معياراً لحضارتنا، فإنه لا بد لنا من التطرق الى معرفة العوامل التي كانت وراء تكوين هذا التراث المعماري الخالد. ولعل ابرز هذه العوامل التي ساعدت على تكوين هذا التراث المعماري، العوامل الآتية:
- العامل الأول هو العامل الروحي الذي اعتمد على الاسلام الذي قام، كما هو معروف، على مبدأ التوحيد الخالص «لا اله إلا الله محمد رسول الله».
- العامل الثاني هو العامل الثقافي الذي يتبلور لنا من خلال دور المسجد كمؤسسة تعليمية وأيضاً القرآن الكريم كتاب الحضارة الأمثل ورافدها الأول الذي أصبح موضوع الدراسة والبحث والتفسير في المسجد.
- العامل الثالث هو العامل الإنساني وذلك لأن مقياس قيام التراث المعماري الإسلامي انما هو الإنسان، وذلك بعكس التراث المعماري الكلاسيكي، الذي قام على مقياس عضوي وهو المسمى بالمودول (Module) الذي يعتمد على مقاييس الإنسان ونسبه الجمالية. واخيراً هناك عامل الثوابت والمتحولات.
وهكذا نستطيع أن نقول ان تراثنا المعماري الإسلامي الذي استجاب التحديات المعمارية السابقة على انبثاق فجر الإسلام، لهو قادر على ان يستجيب تحديات العمران المعاصر، وما علينا إذن إلا ان نبلور ولا سيما المعماريون المسلمون منا اللمسات الواقعية لملامح عمران المستقبل الإسلامي، على خريطة الواقع الإسلامي المعاصر، وذلك حتى تكون عنواناً بواحاً لحضارة إسلامية معاصرة، ينبغي علينا الشروع فعلاً لا قولاً البدء في رسم ملامحها وقسمات وجودها ومن ثم الخروج بها الى دنيا الواقع المعاش في عالم اليوم والغد المنظور. وأخيراً وليس آخراً، فإن التراث المعماري الإسلامي هو في حقيقة الأمر علامة بارزة على طريق العودة الى منابع حضارتنا، وهو ايضاً حافز للنهوض بأمتنا على أسس متينة لا على أسس خاوية، وصدق الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، عندما قال: «لن يصلح آخر هذا الأمر إلا بما صلح به أوله».
* باحث في الحضارة الإسلامية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.