لم يتوقف الشاب العشريني محمد الدسوقي العنزي عند مأساة حرمانه من الجلوس على مقاعد الدراسة أسوةً بأبناء عمه وجيرانه في حي النظيم شرق الرياض، لأنه لا يحمل أوراقاً ثبوتية (بدون)، بل اجتهد ليعلم نفسه القراءة والكتابة بطريقة بدائية قبل أن يسعى إلى تثقيف نفسه ويدمن قراءة كتب لمؤلفين عالميين في صناعة النجاح وتطوير الذات وفن الاتصال مع الآخر مثل مايكل هوست وهنرني ميليز وستيفان كوفي. وبدا الحزن والإحباط بارزاً على قسمات وجه محمد وهو يروي ل«الحياة» «حلقة» من «مسلسل» معاناة دائمة مع كل لحظة يمرض فيها أي فرد في عائلته، لأن المستشفيات والمراكز الحكومية والخاصة في البلاد ترفض استقبال أي مريض لا يحمل أوراقاً ثبوتية وآخرها انتظاره عاماً وثمانية أشهر قبل أن «يفزع» أحد الأطباء لترتيب موعد له لعلاج كسر في أنفه. وعلى رغم ذلك فإن قلب محمد لا يزال عامراً بالأمل في أن يحصل وعائلته على أبسط الحقوق الإنسانية التي يفترض أن يلقاها أي إنسان بغض النظر عن كونه يحمل أوراقاً تثبت هويته أم لا. ولا سيما أن حقوق التعليم والصحة ليست آخر الحقوق الإنسانية التي يعاني محمد الحرمان منها، فهناك حقه في العمل والزواج والتنقل والسفر. عبدالعزيز العنزي نموذج آخر على حجم وشكل المصاعب التي تواجهها شريحة «البدون» في السعودية، فهو يجاهد ليؤمِّن قوت عائلته في بيع الخضار على قارعة الطريق تحت هاجس مداهمة مفتشي البلدية ودخول السجن، وتزداد المعاناة إذا كان «البدون» امرأة، إذ تنعدم الفرص في العمل تماماً. معاناة محمد وعبدالعزيز هي جزء من معاناة كثيرين لا يعرف عددهم الدقيق من أبناء قبائل تستوطن السعودية تاريخياً، لكن آباؤهم لم يحصلوا على ما يثبت هوياتهم لأسباب مختلفة، فيما تحرم أنظمة السعودية من لا يحمل أوراقاً ثبوتية من التعليم والعلاج والعمل. وحين سألت «الحياة» المتحدث باسم الأحوال المدنية في السعودي محمد الجاسر عن تعامل وزارة الداخلية مع هذا الملف قال إنه غير مخول بالتعليق على هذا الموضوع، مفضلاً أن يوجه السؤال إلى قسم العلاقات العامة في وزارة الداخلية. في حين لم يجب المتحدث باسم وزارة الداخلية اللواء منصور التركي على اتصالات «الحياة» لثلاثة أيام متتالية. إلى ذلك، أكد رئيس الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان الدكتور مفلح القحطاني في تصريح إلى «الحياة» ضرورة المعالجة السريعة لموضوع الأشخاص الذين وُلِدوا في السعودية ويعيشون على أراضيها وينتسبون إلى قبائل أصلها سعودي، لكنهم لا يحملون أوراقاً ثبوتية. وقال القحطاني: «هناك تحرك لعلاج حالات فردية في السابق ولكن الموضوع يحتاج إلى حل لجميع الحالات، لأنه كما هو معلوم أن كل العراقيل التي تمنع حصول هذه الشريحة على حقوقهم الإنسانية ترتبط بالسجل المدني الذي يحرمهم غيابه من العمل والعلاج والتنقل والتعليم والزواج، وحتى من تسجيل الوفيات». ودعا إلى الأخذ بالطرق والأساليب التي تقلل من نشوء مثل هذه الحالات ومنع زيادتها، معتبراً أن بقاء الوضع على ما هو عليه يؤدي إلى زيادة الأشخاص الذين لا يحملون أوراقاً ثبوتية وبالتالي تكرار المشكلة، وبعضهم صدرت له موافقات في موضوع السجل المدني ولم يتبق له سوى استخراج الأوراق الثبوتية، ومسألة إنهاء وحصر هذه الحالات يقتضي من الجهات المعنية ذات العلاقة السرعة وحسم الأمور والمبادرة إلى أخذ الموافقة من الجهات العليا في حال مواجهة أي مشكلة تعرقل سرعة إيجاد حلول لإنهاء هذا الملف. وعبّر عن أسفه أن يكون واقع الحال يفيد بعدم مقدرة الإنسان على تلقي العلاج إذا لم يكن لديه إثبات. وتابع القحطاني: «موضوع إثبات الهوية والأوراق الثبوتية مرتكز لكل الحقوق ولا يمكن أن تتمتع بأي حق من دون أن تكون لديك أوراق ثبوتية، ووجود فئة لا تملك هذه الأوراق يحرمهم من كامل حقوقهم الإنسانية». وتطرق إلى أن ملف الأشخاص الذين لا يحملون إثبات هوية وأوراق ثبوتية هو ضمن الملفات التي تبنتها الجمعية منذ إنشائها ولا تزال تتابع هذا الملف، لافتاً إلى أن الوضع القائم - على رغم أن الجمعية نجحت في إيجاد حلول لبعض الحالات الفردية - يحتاج إلى آلية لمعالجة جميع الحالات المشابهة بطريقة موحدة وصحيحة، مؤكداً أن «التحسن في هذا الملف منذ أن تولته الجمعية طفيف وغير مؤسسي، وغالباً ما يواجه بعراقيل كثيرة».