ذات يوم كان لا بد لهوليوود من أن تبدأ بالحديث عن نفسها والتأريخ لأوضاعها وأخلاقياتها، ليس في كتب من تلك التي كثر انتشارها منذ الأعوام الأولى لولادة فن السينما، ثم منذ الأيام الأولى لولادة هوليوود نفسها كمركز رئيس لانتاج أفلام هذا الفن في العالم كله، بل في أفلام تقدّم ما صار يعرف لاحقاً باسم «سينما عن السينما». وكذلك، في السياق نفسه، كان قد آن الأوان لكي تنظر هوليوود الى ماضيها وحاضرها بشيء من النقد الواقعي، لا عبر نظرة تقدير الذات المفرط، التي كان سبق لهوليوود أن نظرت بها الى نفسها. ولكي تتمكن هوليوود من هذا كان عليها أن تنتظر مجيء ذلك المخرج ذي الأصل النمسوي، والذي مر في برلين، قبل أن يحطّ رحاله في عاصمة السينما، ليصير، ككاتب سيناريو ومخرج، واحداً من أقطابها، حتى وإن لم يكن أي من أفلامه يحتسب في خانة أعظم الأفلام في تاريخ السينما. وهذا المخرج كان بيلي وايلدر، الذي حين انتقل الى هوليوود، نقل معه بعض اساليب السينما التعبيرية الألمانية التي كان عايشها في شكل جيد، كما كان نقل معه لغة الاستبطان السيكولوجي حتى وإن كان ما يرويه عن لقائه الأول مع فرويد في فيينا، ليس فيه ما يسرّ خاطر هذا الأخير. ثم لأن بيلي وايلدر كان في الأصل كاتباً وصحافياً قبل أن يخوض غمار الفن السابع، كان لا بد لكل تلك السمات في شخصيته، ولكل تلك الاضافات التي أتى بها، من أن تثمر. وفي يقيننا أنه اذا كان ثمة من بين أفلام وايلدر، الراحل عن عالمنا قبل أعوام، فيلم يجمع ذلك كله، فإن هذا الفيلم هو «سانست بوليفار» المأخوذ عنوانه من اسم أحد الشوارع السكنية الرئيسة في هوليوود، حيث ومنذ البداية، توجد فيلات النجوم ومواطن عيشهم. إذاً، منذ عنوانه يضع هذا الفيلم نفسه، تحت مظلة الحياة الهوليوودية... ويعد بأنه سيروي لنا شريحة من حياة هوليوود. غير ان الذي لا يعد به منذ البداية، انما هو كونه سينظر بكل تلك القسوة الى هوليوود وبعض أشهر أساطيرها: من النجوم الى الأخلاق الى الصورة الزاهية التي عبرها تقدّم الأفلام نفسها. لقد جاء «سانست بوليفار» ليقول ان ذلك كله كان مزيّفاً وأن النجوم ليسوا أساطير زاهية، وأن هوليوود تقف في نهاية الأمر خارج المنظومة الأخلاقية التي بني عليها الحلم الأميركي. بل ان هذا الفيلم يقول لنا ان حلم النجاح الأميركي الذي جسّدته هوليوود انما كان وهماً وسراباً، منذ بدايته. وها هو الوجه الآخر للميدالية يؤكد لنا هذا. والغريب في الأمر ان الوجه الآخر للميدالية يرسم لنا في هذا الفيلم من طريق جثة. وهذا البعد الذي أتى به وايلدر من عالم التعبيرية الألمانية كان جديداً على السينما الأميركية... خصوصاً أن الفيلم يبدأ مشاهده عبر تصوير تلك الجثة طافية فوق ماء حوض في حديقة منزل سنعرف بسرعة انه منزل نجمة هوليوودية أكل الدهر عليها وشرب. صاحب الجثة هو كاتب يدعى جو جيليس (وليام هولدن)، ما إن تحطّ الكاميرا عليه وهو ميت حتى يبدأ برواية حكايته وحكاية موته لنا... وهذه الحكاية هي التي تستغرق زمن عرض الفيلم. تدور الحكاية في زمن تصوير الفيلم، أواخر أربعينات القرن العشرين، في هوليوود طبعاً... والرجل الذي مات بعد أن مزقت رصاصات عدة جسمه يروي لنا كيف انه كان كاتب سيناريو شاباً عاطلاً من العمل حين ارتبط بحكاية غرامية مع نجمة من نجمات السينما الصامتة، تعيش الآن وقد اكتهل بها العمر، في تلك الدارة التي تملكها في ذلك الحي الهوليوودي الراقي... انها تعيش على أمجادها القديمة غير مصدّقة ان زمنها ونجوميتها قد انتهيا، بل لا تزال مؤمنة بأن المجد سيعود ليقرع بابها من جديد، فتستعيد مكانة - بالكاد تصدق أنها فقدتها -. والحال ان ارتباط نورما دزموند (غلوريا سوانسون) بالكاتب الشاب، وهي التي تبلغ سنّها ضعفي سنّه، يدفعها الى التوهم أيضا بأنها لا تزال شابة ومرغوبة، غير دارية ان جو جيليس لم يصاحبها إلا عن انتهازية وعن أمل في أن يعرف هو بعض المجد من طريقها أو من طريق ما تبقى لها من صداقات. انها حياة وهم وعلاقة وهم... وما يزيد الطين بلة هنا هو أن زوج نورما السابق، المخرج ماكس فون مايرلنغ، الذي بدأ نجمه يأفل هو الآخر بدوره، لا يزال على اتصال بها، مغذّياً احساسها بديمومتها مراهناً هو الآخر على بعض بريق المجد القديم. وهكذا، إذ ترتبط نورما بجو، تعتمد عليه لكي يكتب سيناريو العودة التي تريدها وتتصورها كبيرة حاسمة. وهي من أجل ذلك تلتقي بالمخرج سيسيل ب. دي ميل (الذي يلعب دوره دي ميل نفسه في الفيلم)، ويكون هذا اللقاء دافعاً آخر الى تمسك النجمة بأهداب الأمل، إذ ان دي ميل - لمجرد التخلص منها، ومن دون أن تتنبه هي الى ذلك - يشجعها على ما تريد فعله. غير ان الأمور التي بدت براقة وتبشر بالمستقبل المتجدد الواعد، سرعان ما تسوء حين يشعر الكاتب الشاب، فجأة بالقرف من ذلك كله، ويقرر أن يرمي أخيراً القناع رافضاً مواصلة الطريق... وهنا بعد مشادة يقول فيها جو لنورما كل رأيه الحقيقي فيها، تتناول مسدسها وترديه، ليسقط في الحوض، فيما تصاب هي بمسّ من الجنون يدفعها الى الاعتقاد، حين تكتشف جريمتها وتخرج من الباب محاطة بأفراد الشرطة، ان كل هؤلاء الناس المتجمعين لكي يروها معتقلة مجرمة، انما هم جمهورها الذي أتى الى هنا ليحييها مرحباً بفيلم عودتها الى الشاشة، مظفرة ناجحة. وفي أثناء ذلك يكون ماكس منهمكاً في تصوير ذلك المشهد مستخدماً إياها ك «بطلة» لفيلمه الأخير للمرة الأخيرة في حياتها. لقد نظر الى هذا الفيلم دائماً على انه أكبر عملية فضح لازدهار هوليوود واندحارها حتى ذلك الحين. بل في الأحرى لازدهار واندحار اسطورة هوليوود وأسطورة نجومها... ومما يروى في هذا الصدد كيف ان دور نورما عرض على عدد من نجمات هوليوود، قبل أن تقبل به غلوريا سوانسون، لكنهن رفضنه جميعاً، اذ ادركن حقيقة مغزاه وإذ تبدت كل واحدة خائفة على نفسها وعلى سمعتها. والمدهش هنا هو أن سوانسون قبلت الدور، مع ان في حياتها جزءاً من سماته هي التي كانت انطلقت أيام السينما الصامتة ثم أفل مجدها وباتت تعيش حقاً في عزلة، بعدما أدارها اريك فون شتروهايم في فيلم «الملكة كيلي». وشتروهايم نفسه كان هو الذي استعار منه وايلدر ملامح شخصية فون مايرلنغ - الدور الذي في لعبة مرايا حقيقية لعبه شتروهايم بنفسه -. وهذا ما جعل الحقيقة والسينما تتداخلان بقوة في فيلم أسس لتيار سينمائي قوي جعل من هوليوود وحياة نجومها موضوعه الأثير والقاسي الى حد لا يطاق أحياناً... ولد بيلي وايلدر، الذي شارك في كتابة السيناريو بنفسه، عام 1906 في فيينا، وهو اتجه الى الصحافة والأدب في بداياته، وعاصر الحلقات العلمية في المدينة وكتب الكثير من المقالات والتحقيقات التي لفتت اليه الأنظار (وسيكون لشخصية الصحافي دور أساس في بعض أفلامه لاحقاً). وهو بدأ حياته السينمائية في برلين ككاتب سيناريو، ثم حقق فيلمه الأول في باريس بعنوان «البذرة الفاسدة»... ثم انتقل الى الولاياتالمتحدة حيث بدأ يخوض الاخراج منذ عام 1942، وحقق حتى رحيله بعد ذلك بستين عاماً نحو ثلاثين فيلماً نال معظمها شعبية كبيرة ولا سيما منها تلك الأفلام التي أعطت مارلين مونرو وجاك ليمون وأودري هيبورن، أجمل أدوارهم، ومنها: «البعض يحبها ساخنة» و «سابرينا» و «7 سنوات من التألق» و «فيدورا» و «الشقة» و «ايرما العذبة» وغيرها. [email protected]