كثيرون سقطوا سهواً، وربما عمداً، من حسابات النظام المصري القائم، وأبرزهم المرأة المعيلة التي قامت من أجلها ثورة رفعت شعار «عيش، حرية، عدالة اجتماعية». فالمرأة المصرية، كغيرها، حلمت بأن المستقبل القريب يحمل الخير لها، فيمدها بالخبز الذي استعصى على أن يكون متوافراً، والحرية التي قيدتها فوجدت نفسها إما مضطرة إلى الإنفاق على زوج مدمن أو كسول لا يحب العمل، أو غير قادرة على المطالبة بحقوقها كمواطنة تعاني الفقر والعوز. فلا رعاية صحية متوافرة لها ولأبنائها، ولا مساعدة حكومية في المسكن والمأكل والملبس، ولا حتى اعتراف رسمي بها، إلا في أوقات الانتخابات التي تمثل فيها قوة ضاربة قادرة على تغيير الدفة وضبط الوجهة. ولا تدّخر الدولة جهداً، سواء في ظل النظام السابق أم الحالي، في تنظيم المؤتمرات وعقد اللقاءات وإصدار التصريحات في شأن أولئك النساء اللواتي لا يكاد أحد يلاحظهن. فهن لا ينظمن احتجاجات، ولا يقمن باعتصامات، ولا يقتحمن مقار عملهن. هؤلاء النسوة اللواتي تعمل غالبيتهن المطلقة في صمت قاتل، لم يسمع أحد أصواتهن من قبل. غالبيتهن يعملن في القطاع غير الرسمي، من عاملات منازل، إلى عاملات نظافة، إلى بائعات في محال تجارية. ولا يجمع بينهن إلا ظروف عمل تكون غالباً غير آدمية، وغير خاضعة للرقابة، وغير مدرجة تحت بند القانون، إضافة إلى أنهن صامتات قانعات يفضلن استمرار معاناتهن طالما أن صحتهن تسمح لهن بالعمل وأن الستر من نصيب أبنائهن. «أعمال ثقيلة» منى (38 سنة)، زوجة مع وقف التنفيذ وأم لثلاثة أبناء، تعمل باليومية عاملة نظافة منذ أكثر من عشر سنوات. هي زوجة لرجل يفضل القيام بدوره في رعاية الأسرة في الأوقات التي تناسبه، إذ تزوج بأخرى، ولا يهوى «الأعمال الثقيلة»، ويفضل أن يخصص جل وقته وجهده لزوجته الثانية التي تعطيه مصروفاً معقولاً يكفي حاجاته من السجائر ومشروبات المقهى ولا تزعجه بالوعظ والإرشاد حول واجباته في رعاية الأسرة. اكتفت منى بحضوره الشرفي مرة كل أسبوع أو أسبوعين، لأن «خلفتها صبيان» ويحتاجون إلى حضور ولو معنوي للأب في حياتهم. عملها باليومية يعني أن دخلها ينقطع بمجرد المرض مثلاً. وإن اتهمها أحدهم بالسرقة وحرر لها محضراً، تعرض أبناؤها للتشرد. وعلى رغم ذلك، فإنها راضية، لكنها تحلم برعاية صحية لها، خصوصاً أنها مصابة بالربو ومشاكل في العمود الفقري. العمود الفقري لأي نظام قوامه المرأة ومدى رعايته لها، خصوصاً المرأة الأكثر حاجة إلى الرعاية. دراسات وقوانين كثيرة صدرت حول المرأة المعيلة. وعلى رغم بقاء الكثير منها حبراً على ورق، يحاول بعضها الآخر الخروج إلى النور. «المجلس القومي للمرأة»، الذي يخوض منفرداً حرباً ضروساً مكتومة ضد مفهوم تيار الإسلام السياسي الحاكم للمرأة وحقوقها والجهود العاتية من قبله لإعادة المرأة المصرية إلى المربع صفر، ناشد نساء مصر المعيلات ممن يحصلن على راتب الضمان الاجتماعي سرعة التوجه إلى مكاتب الصحة التابعة لها، بغية استخراج بطاقة التأمين الصحي التي باتت تمكنهن من الحصول على رعاية صحية ضمن برامج التأمين الصحي التي تكفلها الدولة. وإذا كانت المرأة المعيلة المقيدة ضمن جداول الضمان الاجتماعي فقط هي التي ستحظى بالرعاية الصحية المرتقبة، فإن أفكاراً أخرى قابلة للتنفيذ قادرة على الخروج بأمهات مصر المعيلات من النفق المظلم الذي يعشن فيه. إحدى هذه الأفكار قدّمها «المجلس القومي للطفولة والأمومة» الذي افتتح مركزين للتدريب المهني للأمهات المعيلات في عدد من الأحياء الشعبية في القاهرة والفيوم، إذ يجري تدريبهن على الصناعات الجلدية والأكسسوارات وحياكة المفروشات. المثير في هذين المركزين هو أنهما لا يقدمان التدريب المهني فقط، بل يمد النساء بخدمات حل النزاعات الأسرية ومحو الأمية. يقول الأمين العام للمجلس الدكتور نصر السيد إن «خدمة حل النزاعات الأسرية تساهم في شكل كبير في حل ظاهرتي المرأة المعيلة وعمالة الأطفال، إذ إنها تعمل على حل النزاع الأسري قبل الوصول إلى مرحلة الطلاق الذي يؤدي إلى التفكك الأسري. ما ينعكس سلباً على الأطفال الذين يمتنع الأب عادة عن الإنفاق عليهم، ما يضطر الأم إلى حرمانهم من الذهاب إلى المدرسة ودفعهم إلى سوق العمل. مثل هذه البرامج تعد نقطة في بحر مشكلات المرأة المعيلة وما يتصل بها من ظواهر ومظاهر سلبية تدخل المجتمع برمته في دوائر مغلقة من الفقر والمرض والجهل. ووفق أحدث إحصاء أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عام 2011، فإن نسبة النساء المعيلات هي 16 في المئة، فيما النسبة التي تتحدث عنها منظمات المجتمع المدني لا تقل عن 33 في المئة. وتتركز النسبة الأكبر منهن في سوهاج، تليها الأقصر، ثم الدقهليةوالقاهرة، ثم جنوبسيناء والوادي الجديد والبحر الأحمر ومرسي مطروح. النساء المعيلات فئة ضمن فئات مصر المنسية في عهد النظام السابق الذي تجاهل الفقراء في زمن ما بعد ثورة العيش والحرية والعدالة الاجتماعية. هن ملمح من ملامح استمرار سياسة تجاهل الفقراء. وعلى رغم أنهن قانعات صامتات صابرات، فإن حكمة القدماء تقول: «للصبر حدود»!