يتواصل المشهد السوري في تقديم المزيد من شلالات الدم بين أبنائه، وتدمير النسيج الاجتماعي، وخلق خنادق التقسيم بين السكان سواء على صعيد الجغرافيا ام الديموغرافيا. لا يمكن أحداً ان يتكهن بالمدى الذي ستبلغ فيه الجلجلة نهايتها، بل على العكس تقدم الأحداث السورية لوحة سوداوية توحي بازدياد المطبات التي تصيب المعضلة السورية، وتبشر بأوقات عسيرة. يمكن اختصار المشهد بالقول ان النفق السوري طويل ومظلم ولا قعر مرئياً حتى الآن لنهايته. يمكن التوقف أمام محطات ثلاث في مسار الحدث. المحطة الأولى تتصل بإصرار النظام على تدمير سورية، بشراً وحجراً. لم يعرف التاريخ نظاماً سياسياً او حاكماً تصرف مع شعبه بالوحشية التي يقودها النظام السوري ضد هذا الشعب. يملك النظام ترسانة هائلة من التسليح، بناها وفق منظومة ايديولوجية قوامها التحضير لمواجهة العدو الصهيوني وتحرير الجولان من الاغتصاب. على امتداد اربعين عاماً ظل النظام يلوك هذه الاكذوبة الى ان تكشف العدو الحقيقي لحكم البعث، الا وهو الشعب السوري نفسه، فاستحق العقاب كما يجب، ولم ينته التأديب المطلوب له بعد. لم يكن الرئيس السوري يخادع عندما أعلن مع بداية الانتفاضة انه على استعداد لتدمير سورية مقابل تركه السلطة، ولم يكذب على تجار دمشق عندما أعلمهم ان دمشق وأسواقها ستشهد المصير نفسه الذي شهدته أحياء حمص. وها هو ينفذ تهديداته اليوم في مواجهة التطورات العسكرية التي بدأت تدق أبواب دمشق، بأنه مستعد لتدمير العاصمة اذا ما باتت المعركة في قلبها. لا يتخيلنّ أحد ان مسألة التسوية السياسية موضوع وارد في عقل المجموعة الحاكمة في سورية، بل الثابت هو المزيد من القتل والمزيد من التهجير والتدمير الى آخر مواطن سوري. المحطة الثانية تتصل بالتلاعب الدولي والاقليمي بالمسألة السورية. منذ فترة بعيدة، لم تعد المسألة السورية تقوم على حراك الداخل الذي اطلق شرارة الانتفاضة. لم يتأخر الوقت حتى تحولت الأحداث السورية قضية دولية وإقليمية تتجاذبها مصالح الدول، بحيث ترتفع وتيرة التفاؤل او التشاؤم في شأن التدخل الداعم للشعب السوري وفق ما تتطلبه هذه المصالح. منذ الأشهر الاولى للانتفاضة ارتفعت أصوات غربية واقليمية تهدد بأنها لن تسمح للنظام بتواصل مجازره، وكانت التهديدات تتواصل من الجانب التركي او الأميركي او الاوروبي، وتتناغم معها الدول العربية. لم يكن يريد الشعب السوري تدخلاً عسكرياً أجنبياً، كان جل ما يرغب به تسليح المعارضة بعد ان عسكر النظام هذه الانتفاضة وبات الحسم العسكري العنصر الذي سيقرر مصير سورية ومصير النظام. كلام كثير أطلق ووعود فارغة أعطيت، وكلام عن حقوق الانسان التي يجب ان تحترم أهرق من دون نتيجة. فما شهدناه ان هذه القوى الاقليمية والدولية كانت تتلاعب بالوضع السوري، ولم تكن ترغب في وضع نهاية سريعة للأحداث، وليس مبالغة سوء الظن بمقاصدها التي ظهرت واضحة بأن الأزمة السورية يجب ان تمتد وتتواصل الى الحدود التي تنتهي فيها سورية، موقعاً سياسياً واستراتيجياً وقوة سياسية لاعبة في المحيط الاقليمي. من هنا كان تجفيف المساعدات المادية ومنع التسليح عن المعارضة. لاحت لفترة زمنية قصيرة بشرى فرنسية وبريطانية برفع الحظر عن تسليح المعارضة، وصدرت تصريحات واضحة من الرئيس الفرنسي عن هذا الاستعداد، لكنه سرعان ما ابتلع لسانه وأعلن انه لن يدخل في عملية التسليح. في الخلاصة، لا يزال التلاعب بالمصير السوري مستمراً، مما يعني تواصل المأساة. المحطة الثالثة تتصل بواقع المعارضة السورية ومعضلتها الداخلية وصلتها بالخارج. لا شك في ان هذه المعارضة تعاني ارتباكاً منذ تأسيسها، وتحمل من التناقضات اكثر بكثير من نقاط الالتقاء. لم يقتصر التلاعب الاقليمي بالمصير السوري وحده، بل امتد الى قلب المعارضة، بحيث بات كل طرف اقليمي يمد يده الى قسم من هذه المعارضة. لكن الظاهرة المقلقة التي طفت على السطح في الأشهر الماضية هو الدور الخطر الذي يلعبه تنظيم الإخوان المسلمين في الهيمنة على المعارضة وقراراتها، وفي الكشف عن برنامجهم الحقيقي المقبل لسورية بعد إسقاط النظام. في الأشهر الأولى لاندلاع الانتفاضة صدر عن «الإخوان المسلمين» في سورية ما يشبه المانيفست يحددون من خلاله نظرتهم لمستقبل سورية، في وصفها دولة مدنية تعددية لا يرمي «الاخوان» الى احتكار السلطة فيها، بل تشدد على مشاركة كل مكونات الشعب السوري في تقرير مصير البلاد. سرعان ما انكشف الموقف «الإخواني» على حقيقته على غرار ما بدا في مصر وتونس. يعقد «الإخوان» اليوم حلفاً مع دول عربية تمدهم بالدعم المادي، كما يعقدون حلفاً ايضاً مع ما يعرف بالتنظيمات المتطرفة من جهادية وسلفية داخل سورية. ابتلع «الإخوان» كل الخطاب الذي بشروا به الشعب السوري، حتى ان كثيرين صدقوا، سابقاً، ان تنظيم «الإخوان» في سورية غيره في اقطار عربية، اي لا يحمل فكراً إقصائياً ولا يرمي الى بناء دولة دينية. ان تلاعب «الإخوان» بمصير المعارضة يزيد من انقساماتها ويضعف موقفها في المستقبل ويجعلها نهباً للقوى الخارجية. وهو مشهد لا يقدم صورة وردية لسورية القادمة. لن تتوقف المذبحة السورية في المدى المنظور، انها تنتظر الصفقة الدولية –الاقليمية حول سورية، فهل ستظل كياناً موحداً ام تصبح مقسمة، وحول طبيعة النظام السياسي الذي سيقوم، سواء في ظل الوحدة او التقسيم.